hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - خيرالله خيرالله - الراي

مرحلة ما بعد الحقد على المدن العربية

الإثنين ١٥ حزيران ٢٠١٧ - 06:41

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

ما الذي يجمع بين كل هؤلاء الديكتاتوريين الذين هبطوا على المدن العربية من خلال انقلابات عسكرية او الشعارات ذات الطابع الديني؟ ما الذي يجمع بين جمال عبدالناصر ومعمّر القذّافي، مرورا بحافظ الأسد وصدّام حسين، وصولا الى قادة الميليشيات السنيّة مثل «داعش» او الشيعية التي تقف وراءها ايران والتي صار لديها انتشار في سورية والعراق ولبنان واليمن؟

يجمع بين كلّ هؤلاء، ذلك الكره للمدينة والحقد عليها وعلى أهلها بدل التعلّم منها ومنهم والاستفادة من كل ما توفرّه المدينة من أجواء تسمح بالاختلاط والتلاقح بين الحضارات المختلفة، وهو اختلاط يصنع فكرة التسامح والاعتراف بالآخر والتوق الى الترقي والانتماء الى كلّ ما هو حضاري في هذا العالم.

يروي ديبلوماسيون عرب وأجانب انّ العاصمة الليبية طرابلس كانت من اجمل المدن وأكثرها رقيّاً قبل الانقلاب الذي قاده القذّافي في 1969. كانت هناك حياة اجتماعية وأماكن راقية في المدينة. كانت طرابلس اقرب الى مدينة إيطالية من أي مدينة أخرى في العالم العربي. قضت «ثورة الفاتح من سبتمبر» على المدينة وعلى فكرة تلاقي الحضارات فيها.

أسس ما حصل في مصر مع مجيء «الضباط الاحرار» الى السلطة في يوليو 1952 لسلسلة التحولات التي شهدتها المدن العربية. رويداً رويداً، قضي على القاهرة والإسكندرية. لم يدر عبدالناصر ان الاهمّ من تأميم قناة السويس، في العام 1956، كان المحافظة على الجاليات الأجنبية في القاهرة والإسكندرية والاسماعيلية والمدن الاخرى. كان هؤلاء يبنون اماكن جميلة ويحافظون على المدينة وعلى فكرة الرصيف والحدائق والطرقات الواسعة والتخطيط المدني ويرفعون مستوى التعليم في مصر كلّها. ثمة مَنْ سيقول إنّهم كانوا مسؤولين عن الطبقية في مصر. يمكن ان يكون ذلك صحيحاً، الى حدّ ما. ولكن ما البديل الذي جاء به عبدالناصر عندما سمح بتحويل احياء القاهرة والإسكندرية الى مناطق شعبية يقيم فيها ضباطه. ما مصير القاهرة والإسكندرية وما مستقبلهما ومن لا يزال يتذكّر الإسماعيلية واماكنها الجميلة؟

كانت تلك نقطة البداية لاجتياح الريف للمدينة، تماما كما حصل في العراق حيث تعرّضت بغداد لغزوة البعثيين الآتين من قراهم للانتقام من المدينة. من يعرف شيئا عن البصرة حاليا باستثناء انّها تشبه ضاحية فقيرة في مدينة إيرانية بعدما كانت في مرحلة معيّنة قبلة اهل الخليج، خصوصا اهل الكويت؟

الامر نفسه ينطبق على دمشق التي لم يعد فيها كلمة تعلو على كلمة الضابط العلوي او السني الريفي. حتّى اللاذقية لم تنج من اجتياح الريف. كانت المدينة تضمّ نخبة سورية خرج منها رجال مصارف ومقاولون كبار عرف لبنان قيمة عدد منهم عندما انتقلوا اليه في ستينات القرن الماضي. كانت اللاذقية مدينة سنّية ـ مسيحية. كانت علاقاتها بشمال لبنان من النوع العميق، فاذا بها تتحوّل الى موقع لـ«الشبيحة» ولكل مراكز القوى التي انتجها نظام حافظ الأسد واشقاؤه ابتداء من العام 1970.

مع مرور الوقت، لم تعد مصر تؤثر في العالم العربي. لم تعد القاهرة تلك المدينة التي ينطلق منها «التنوير» على كلّ صعيد. في السنوات الأخيرة من عهد حسني مبارك، صار قطاع غزّة الذي اقامت فيه «حماس» ما يمكن تسميته بـ«امارة إسلامية» على الطريقة الطالبانية، نسبة الى «طالبان» مؤثرا في مصر. صارت القاهرة والإسكندرية تتأثران بغزّة، بدل ان يكون العكس هو الصحيح. في صيف العام 2009، شاهدت بنفسي مناظر مضحكة مبكية لنساء جلسن على شاطئ تابع لاحد فنادق الإسكندرية. أين مصر التي كانت تصدّر كلّ ما هو حضاري وتقدّمي الى دول المنطقة، بما في ذلك لبنان في مرحلة ما. في تلك المرحلة، كان على كل فنان لبناني ان يذهب الى مصر في حال كان يسعى الى الشهرة الواسعة التي تفوق حدود الوطن الصغير.

ما نشهده حاليا من تدمير لكلّ مدينة سورية او تغيير لطبيعتها نتيجة مباشرة لما خلفه نظام حافظ الأسد، وهو شخص كان يكره المدينة ولا يتذكّر سوى المعاملة المذلة لبعض الاقطاعيين لاهل الريف. هذا كان صحيحا بعض الشيء فقط. لكن الصحيح انّ الريف السوري لم يتطور في عهد حافظ الأسد او في عهد وريثه. صار هناك اقطاع من نوع جديد فرضه ضباط علويون ينتمون الى فئة معيّنة بالتحالف مع رجال اعمال من كلّ الطوائف يعملون لمصلحة عائلة واحدة، هي عائلة الرئيس او عائلة اقربائه المباشرين.

من «ثورة 23 يوليو» في 1952 الى تدمير «داعش»، قبل ايّام، منارة الحدباء ذات الاهمّية التاريخية والتابعة لمسجد النوري في مدينة الموصل، مسافة خمسة وستين عاما. انّه تاريخ طويل من الهزائم والنكسات توجت بالوضع الذي آل اليه المشرق العربي وقسم من شمال افريقيا حيث يبقى المغرب الاستثناء الوحيد والاوحد بفضل ملوكه الذين حافظوا على المدينة وعلى النسيج الاجتماعي للمملكة.

بعد مرحلة الانقلابات العسكرية، دخلت المنطقة مرحلة تدمير المدن والمجتمعات. وحدها بيروت صمدت في منطقة المشرق العربي بفضل رجل اسمه رفيق الحريري المهووس بلبنان الذي سعى أيضا انقاذ سورية ولكن من دون نتيجة. ما الذي سيلي مرحلة تدمير المدن العربية؟ ذلك هو السؤال الكبير الذي سيطرح نفسه عاجلاً ام آجلاً. هل هي مرحلة المواجهة بين الميليشيات المذهبية التي ترعاها ايران والتنظيمات الإرهابية السنّية التي ولدت من رحم الاخوان المسلمين الذين مازالوا يتحكّمون بغزة؟

الثابت ان المرحلة الجديدة في غاية الخطورة، خصوصا مرحلة ما بعد الموصل وتهجير أهلها على يد «الحشد الشعبي» الذي وجد في «داعش» خير حليف له من اجل تنفيذ مآربه. الثابت أيضاً انّ ليس مسموحا بقاء غزّة تلعب دورا مؤثرا في الداخل المصري. ليس كافيا ان تردّ مصر على الإرهاب الذي استهدف اقباطها في المنيا بضربات يشنها سلاحها الجوي في ليبيا. ثمة حاجة الى الانتهاء من ظاهرة «الامارة الإسلامية» في غزة التي أسست لمرحلة تدمير المدن والمجتمعات العربية. الانتهاء من هذه الظاهرة يحيي الامل بعودة بعض الروح الى الدور المصري والى رغبة في التصدي للمخاطر الآتية التي نتجت عن سنوات طويلة من التعلّق بالأوهام والشعارات التي أوصلت المشرق العربي وشمال افريقيا الى ما وصلا اليه من حال تشرذم تقود الى سؤال كبير آخر: الى أين سيذهب «الحشد الشعبي» الذي يتلقى تعليماته من إيران بعد الانتهاء من تدمير الموصل؟
خيرالله خيرالله - الراي

  • شارك الخبر