hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - مازن ح. عبّود

اناس الصمت

الثلاثاء ١٥ حزيران ٢٠١٧ - 06:12

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

سألني طفلي عن الصمت (ماهيته وتأثيراته والوانه وخصوصياته). اجبت بانّ لا لون للصمت الا المدى. الصمت سر. الصمت نجوى. الصمت ومضة. ابلغته باني لا اتقن طرائقه، "الا إني اعرف قلة عزيزة تقتات صمتا وصلاة وهمسات".

ثمّ سألني عن أناس الصمت، فقلت بأنّ المتوحدين يتسلحون بالصمت ويمخرون عباب بحاره بالتأمل، ويتسلقون قمم جباله الى فوق. ينصتون جيدا فيلتقطون في ذبذباته رائحة الاله وسحر كلماته الى البشر. وهم إذا ما صاروا فوقا أمسوا ملائكة لكن بثياب بشر، يحملون الينا من ممالك الصمت رسائلا وشهادات. ابلغته بأنه لولا هذه القلة من المتوحدين لكان الانسان في البشر قد زال، ولكان قد توقف سيل الرسائل والكلمات. أناس الصمت يا ولدي هم منارات سرية. أناس الصمت مدراس انسانية تدفع عنا الدهرية، وتدفعنا الى سلوك دروب الخلود.
سأل الصبي: "الا يسقط أولئك احيانا وهم يتسلقون حبال الصمت؟ الا يقعون من فوق؟".
فأجبت: "نعم، يسقط بعضهم، ويكمل بعضهم الاخر المشوار. لكن على عيوننا ان تلاحق من يتابع التسلق وتصلي لمن وقع. فلا نتعثر من سقطات من كاد ان يصل.
صمت الملك، فاستكانت المملكة. صمت الملك، فخاف من يعيش في العتمات.
انّ البشر يا ولدي عادة يكرهون الصمت لأنه يسمع صوت الضمير الذي يوجع، وهم لا يحبون الوجع، فيهدئونه بالضجيج. يهرب البشر من جلجلتهم فيقعون في الموت لانّ في الجلجلة تبدأ القيامة.
نعم يا صغيري يعيش البشر في الكذبة، والكذب يقتات ضجيجا وبلبلة".
ثمّ قلت له باني اتوق ان اقفل اذنيّ وعينيّ. ابلغته بأني سأقفل التلفاز يوما، فلا نعود نتلقى الموت. فما نسمعه يا صغير يغيرنا ويبرمج عقولنا، فنظن ان لا إله في هذا الكون ولا خير ولا ومضات. نظن انّ الموت نمط حياة والخطيئة عادة محمودة.
ودعوته الى ان لا ينجرّ وراء المتكلمين كثيرا لانّ عزرائيل هو المتكلم الأبرز في هذه البشرية، وهو ينطق في الكثير من شاشاتنا وصفحاتنا، ويدعونا الى الاستسلام. دعوته ان يتسلح بالصمت في الكثير من المواقف، الذي لا يعني بالضرورة السكوت عن الخطأ لا بل هو على العكس شهادة أحيانا في زمن التردي حين يزداد البلبال كثيرا.
وتابعت:
"قتل البلبال والدهرية الكثير من اهلي وهي تكاد ان تقتلني وتقتلنا جميعا. يلتهم الدهر البشر، فيموت كثيرون وهم احياء يرزقون. يموت الناس يا ولدي حين تموت قيمهم وشيمهم، ولا يعودون يضيئون في العتمات. ينطفئون ببساطة. يموتون وتشعر في حضرتهم بانك في حضرة مجهولين. فتبكي أولئك الذين عرفتهم او اعتقدت يوما بانك عرفتهم".
تنهدت واكملت حديثي:
"البشر كما قال ابي صناديق مقفلة قلما يستطيع أحد ان يكتشفها او يكتشف بعض مكنوناتها. يرحلون ويرحلون قصصهم معهم وحقائقهم. فهم يختبئون وراء ما يرغبون بإظهاره لك. كلنا يسعى ان يبان بارا في عيون الناس، لكن قلة قليلة تدرك مدى زيفها وخبثها فتنتفض وتعمل كي تصير بارة في عيون الله. فتنتفض وتطلق ورشة اصلاح داخلية لا بل حروبا كي لا تتغرب عن ذاتها. ان تكون ما تظهره للناس، تحد كبير. جميل ان تشبه ذاتك يا ولدي".
راح يتأملني وقد دمعت عيناي، فقد كنت ابكي من انطفأ، وهو مازال في الدنيا يعيش. كنت ابكي على نفسي وانا انطفئ.
وانهيت كلامي بالقول:
"كثيرة تحديات هذا الدهر. لقد اختلطت الحقيقة بالسراب والوهم. وصارت حقيقتنا وهمية تعدها وسائل الاعلام.
فلنصمت يا بنيّ ولنستمع الى حفيف الشجر. فلنستكن ولننصت الى الجدول، والى العصفور يتلو مزاميره. فلنختفي بخفر في الليل ولنتأمل في النجوم والكواكب، ففي الصمت حكمة".
وصمت ولدي وصار يتأمل ويحبك قصصا له من خيال وعوالم محببة. أعطيته لوحا من الشوكولا تقديرا، فالتهمه شاكرا. وصار يتسلح بالصمت في كل مرة يشعر بسذاجة الكلمات امام حجم البلبال. فوجده مأكلا لذيذا وسلاما واستكانة.

 

  • شارك الخبر