hit counter script

مقالات مختارة - رشا ابو غزالة

وُلد اليومَ لكُم مخلّصٌ !

السبت ١٥ أيار ٢٠١٧ - 06:49

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الجمهورية

من أين أبدأ يا غيثُ والبدءُ دموعٌ،

من أين أدمع يا غيث، والدمع جفّ في المآقي،

عشرُ سنوات، وكما هو الشعرُ تفجّرُ الذات في أعمق حميمياتها، الصادقةِ كجرحٍ نازف، الثائرةِ كنبعٍ فوضوي، الصاخبةِ كفكرٍ قلقٍ، المنسحقةِ كقلبٍ مشلّعٍ، جالستُ ذاتي، مع ورقتي وقلمي، على كرسي اعترافي؛
جرحاً مفتوحاً موجِعاً موجَعاً، تاه في ضجيج مراهقته وصخبِ ثورته وفورةِ ألمه،

روحاً ثائرة نازفة متحدية، تعيش الواقعَ الحالمَ بلقائك الواعدِ تارة، وتنسحق أمام الواقع الماعسِ الأحلامِ طوراً، ليكون قولُ الشاعر مرآة لواقعي:
«إجرح القلب وأسقِ شعرَك منه فدمُ القلب خمرة الأقلام»

عشرُ سنواتٍ، وباءُ القلب تعانق ميم القلم، وبين الباء والميم حقيقةُ فاجعة لطّخت أوراقي ودنّست يراعي،

فجيعةٌ في فجائع، فجيعةُ انهيار القيم وتصادمِ الخير والطُّهر بالشرّ والإثم،
فجيعةُ الصراع بين إبداع السماء وبشاعةِ البشر،
فجيعةُ الإنحطاطِ الوطني الحضاري السّياسي الإجتماعي،
فجيعةُ المقتِ والفساد في عالم المثال،
فجيعةُ القهر والمعاناة في حضرةِ الألم،
فجيعةٌ صدمت القلب فلمَن أشكي؟

ألأمٍّ دفنت ابنها بيديْها، وبصمتٍ لبست ثوب الحداد، وأمام مهدٍ قد فرغ، في غرفةٍ أضحت موحشةً، جلست تُبحِر في ذكرى ابنها الشهيد؛ وكلما مرّ شريطُ حياته في مخيّلتها تراءى لها رضيعاً بين يديْها تلاعبه وتذكّرت أولى خطواته وابتسامته التي ما فارقت محيّاه، وما زادها أساها إلا إيماناً وتقوى وأصالةً في الكبرياء!

أم أشكي لأبٍ روى ابنه فأبدعَ الرواية ووصفه فأحسنَ الوصفَ وبكاه فأثلج القلب وضمّد الجراح، وعاد يتحسّسُ تاج الفخر على هامة الرأس، قلّده إيّاه ذلك الشهيدُ الفارسُ الذي رُفع فوق أعناق الرجال فزُرع في جبين الليل نجماً في الأعالي!

أم لأخٍ، لو نظرتُ إليه تراءت لي ملامحُك، ولو نظرتَ أنت إليه من عليائك، لعلِمتَ أنّ بذهابك، ذهب الصديقُ المحبُ والأخُ الكتوم الذي ائتمنه على الكثير من أسراره ودفنها بين ضلوعه، فأبى إلّا أن يسطّر مسيرتَك دروساً في الشرف والتضحية والوفاء؛

أم لأخٍ آخر، تخنقه العبارةُ كلّما تردّد اسمك على مسامعه ليشعر بمرارة الشوق تحفرُ أخدوداً في حلقه، يراك في كل مكانٍ وكل زمان، وفي ابنه الذي وُلد وحمل اسمك «روي» ليُعيد تأجيج الشعلة التي شاء القدر أن تنطفئ باكراً.
عشرُ سنواتٍ، ولم أرثِك، ولن أرثيَك فالشهداء لا يموتون؛

لن أرثيَك ومحمد لا يزال ينشرُ النبوّة بدمع فاطمة ومريم تسقي قبر يسوع بدموع مقلتيها،

لن أرثيَك ما دامت تراتيلُ كنيستي تناجي أناشيدَ جامع بلدتي فيذوب الشّجن في صدى الألحان ليبنيَ جسور الحب الصاعد إلى الجنة ويصنع ابطالاً تنحني الهاماتُ لهم،

لن أرثيَك، بل سأعود إلى كرسي اعترافي لأكسرَ القلم وأشيد من عثراتِه مرتعاً لصلواتي، فيحتلّ الجيش اللبناني أولى آياتها ليكون خشبة خلاصنا،
في كل قطرة دمٍ نزفت من جريحٍ أو دمعةٍ ذرفتها أم شهيد،

في كل صرخة طفلٍ ينادي أباً قد أقعدته رصاصةُ غدرٍ أو سَطّر مشوار حياته شهادةً من الشرف وبذل الذات،

لن أرثيَك وقد تبشّرت أمُّك الثكلى وأمهاتُ الشهداء أجمعين بفرحٍ عظيمٍ يكون للجيش كلّه والشعبِ كلّه والوطنِ كلّه، وأعظم الهدايا لأطهر الأمهات قُبيل أيامٍ من عيدهنّ!

لا دمعَ بعد اليوم يا أم روي، فرحْمُ أم جوزيف قد ولد بطلاً!

لا حزنَ بعد اليوم يا أبو روي، فأبو جوزيف الذي رقّطت البزةُ العسكريةُ روحَه شرفاً، أبى إلّا أن يكلّل مسيرة حياته تضحيةً، وبدلَ أن ينتظر بضعة أيامٍ ليغمره العمادُ شاكراً فيبادله بدوره طابعاً قبلة الفخر على جبين ولده، إختار الغصّة للعماد وأبى إلّا أن يلاقيَ الشهداء في عليائهم ليبشّرهم بفرحٍ عظيمٍ:
«وُلدَ اليومَ لكُم مخلِّصٌ !»

وَلدي هو، يُخبر أبو جوزيف الشهداء، فلذةُ كبدي هُو،
مِن رحمٍ جنوبيٍّ لطالما حملَ ابطالاً وُلد،

من حليب الوطنيّة غرَف وشبّ بين خمائل جنوبه وصخوره فرشَف من حدّةِ الصخر صلابةً ترسّخت في كيانِه بطولةً وعنفواناً،

وَلدي هو، قُبالة جبلِ الشيخ حيث تجلّى التجلّي عظمةً، إرتشفَ قهوته الصباحية وأودعَ خلَفهُ أمانةَ تراب الجنوب الحدودي الأبي، واتجه شمالاً شرقاً ليتخبطَ في حومة الوغى مع فيالق من الكفّار، سيطرت عليهم أنيابُ ومخالبُ لا يسوسُها عقلٌ ولا يردعها وجدانٌ!
وَلدي هو، السماءُ تهّللُ له، والملائكةُ تحرسه وتنشدُ «الخلاصُ على أرضنا»،

تعالَوا، أنظروا وأخبروا،

فرحٌ عظيمٌ للبنان، صار للجيش قائدٌ يكملُ مسيرةَ الشرف ليحملَ القضية قلباً وقالباً،
صار العميدُ عماداً، ورُفعت الياءُ ألِفاً تَرفع شأن الشهيد وتُقدّس ذكراه،

يا للفرحِ العظيمِ والفخرِ الأعظم، ولدي أنا، حبيبُ روحي، يحرس أرواحَ رفاق السلاح وأرواحَ الشعب كلّه!
إفرحي يا أم جوزيف، وحوّلي الغصةَ في حلقِك إلى صرخة أملٍ تصْدح، طارحةً الحزنَ والضعفَ جانباً وبانيةً جدراناً من المجد والاعتزاز!

هلِّلوا يا شهداء، فقد استُجيبَت صلواتُ أمهاتكم وتحّققَ الوعدُ بعونِ الله عوناً، هو الهديةُ من الله لكلّ إنسانٍ ولكلّ لبنان !
لا تخافي بعد اليوم يا أم روي ويا أمّ كل بطلٍ، لأنه وُلدَ لكُنّ اليومَ مخلصٌ،
ولدي هو، بطلي هو، حبيبُ روحي هو، عمادُ الوطن وعونُ الشعب.

الأمرُ لك يا ولدي، فقد استوْدَعتُك مبسمَ أمك وفرحةَ شعبك وقلبَ جيشك، فاحفظْهم بحفظِك الذي لا يُرام وعينك التي لا تنام.
إطمأنّ أبو جوزيف على ولده، أودعه أمانة الجيش وشهدائه وغفا...

فعُدتُ بعدها إلى كرسي اعترافي، لأُلملِم ما تحطّم من يَراعي وأنسجَ منه جناحاً يقِي عمادَنا رياح الغدر ويُظلّل عهدَه خيوطاً من الأمل والشرف، عهدٌ من الشعبِ وإلى الشعبِ يعود!

الشهيدُ يغفو مطْمئناً لوقعِ خطواتك، الأمُّ تنام قريرةَ العين لحكمةِ قراراتك والشعبُ يهتف لك:
«خلاصُنا أنت يا عماد، ونحن بك وحدك مخلّصون»

* شقيقة النقيب الشهيد روي أبو غزالة

  • شارك الخبر