hit counter script

مقالات مختارة - بروفسور نسيم الخوري

عندما يتحوّل الوطن وسادة محشوّة بالأفكار الإجراميّة

الأحد ١٥ آذار ٢٠١٧ - 18:28

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

أليست دبي وسادة محشوّة بالأفكار والأحلام الجميلة الإيجابية ولبنان وسادة محشوّة بالخوف والجوع والتظاهر ولرغبة في أي فيزا والسفر والهجرة مثل البروق نحو الخليج أو نحو مدن الدنيا وأرصفتها ؟
هذه ليست سياسة هذا إجرام وتمادي في الإجرام.
أتنفّس أحياناً دبي. كانت وسادة رفيق الحريري مسكونةً بمنافستها قبل أن يأتي الى بيروت. أين صار الحريري وأين صارت دبي وكيف صار لبنان واللبنانيين في مسالخ السياسة والسياسيين؟ أتنفّس دبي بقريتها الإعلامية دولة متحرّكة نقيّة تقعد مع أجيالها من مختلف الأعمار والفئات، وكأنّها مقيمة في حيّزٍ معاصرخاص. لها عقلها وكأنّها صديقة أو إبنة ال Bits في إطلاق علوم الرياضيات الحديثة من تقليديتها المحصورة في الجمع والطرح والقسمة والضرب، أو كأنّها ساهمت في خروج الصفر من عدميّته التي كان فيها وساعدت التفجّر نحو الإمكانيات والإحتمالات اللامتناهية في الأرقام والأحلام والأفكار القابلة دوماً للتحقّق.
لا مكان للدول في القرون القادمة التي لا تبتكر أوالتي لا تنصاع للأفكار الجاذبة وإطلاق جاذبيات الشباب والمواطنين وعقولهم نحو الجديد والحديث، وإعادة القول بالعالم العادل الذي لا تغرب الشمس عنه بالمعنى المعرفي والنهضات اليومية وتبادل البورصات والثقافات، وسقوط الحدود بين الدول والشعوب والثقافات. لا فضل لواحدٍ على آخر سوى بالإبتكار والإنتاج والتنظيم والإحترام. ما يميّز بلد عن الآخر هو مدى إيمانه بأولاده وأجياله وشبابه. يمكننا كآباء أن نصعد نحو أولادنا وأجيالنا الشابة بأن نشركهم ونسلّم لهم ونسعدهم، بدلاً من أن نهبط فوقهم وإليهم فلا نرتاح ولا نتقاعد ونسدّ طريق الزمن. لبنان يرمي أجياله في الطرقات أو في مدن الأحلام المخقّقة مثل دبي.
لا يمكن الإستمرار في تعداد قوائم القتلى والخرائب في أرضنا أو التقاتل والتحاجج على المفاجآت والكوارث التي أورثها لنا "الربيع العربي" منذ ثورة الأرز، ونتغاضى عن عصر الإعلام الحديث الذي يجعل الشاشات من مختلف الأحجام والوظائف المتعدّدة وفي طليعتها الهواتف المحمولة بوّابات إبداع تسبق السياسات وتنافس السلطات وتربك الدول. لقد فاتنا ربّما في لحظة أن أولادنا وأحفادنا قد سبقونا في العصر، وفاتنا الإنتباه جميعاً كما العديد من المسؤولين والنخب والإعلاميين أنّنا ربّما بلغنا زمناً صارت فيه علوم الإتّصال والإعلام والتطبيقات التي لا تنتهي جاهزة كي تحتلّ عروش المعرفة وحتّى الفلسفة التي إعتبرت أم العلوم منذ ما قبل الإغريق.
أين هي فلسفة اليونان اليوم؟
نوع من التوسّل فوق أرصفة أوروبا وإحتساء العرق والرقص؟
إنّ العقول والنخب العربيّة التي لم تغادر عروشها الفكرية القديمة في الفلسفة والتفلسف والتعقيد والحكم وتراكم برامج التخطيط المستوردة في مستقبل أوطانها كما لبنان، ستبقي هذه الأوطان في مطارحها التي تنحسر بالتدريج تبحث وتجادل العالم في الأفكار الرتيبة أو الإيمانية الكبرى والأديان التوحيدية بكلماتها الثلاثة لتتظهّر في الإيديولوجيا والأفكار والأنظمة ومعظم الأسئلة المطروحة التي لا تورث سوى المزيد من الخيبات والإنزياحات الوطنية. إنّها الدول الفاشلة كما لبنان.
نحن في عصر النعم yes واللايك حاضر في سلوك دونالد ترامب وإنفعالاته وخطبه وتراه أمامك لدى أولادك وأحفادك ويحتل شاشات العالم وأنت ترفع يديك الى فوق كما أولاد العالم وكأنهم يحتلون المكان والزمان الشاسعين وأنت ماذا تحتلّ؟
لن تحتلّ السماء قطعاً. تبحث عن أحقيّتك في السماء ولن تجدها.
تغادر الفلسفة، بل غادرت مقاعدها منذ زمن بعيد .الآن هو عصر الآن Now . يجب إنتشال أجيالنا الشبابية وتوجيهها نحو السعادة والإبتكار والإنخراط كي لا تبقى بلادنا موصومة وكأنّها منابع دم وقتل وموت وأحزان ونديب وسواد في عصر تغادر أو تنسحب فيه أجيال العالم الآن نحو العمران واللذة والسعادة والموسيقى والرقص والحياة الوفيرة والبيئة والصحّة والأمراض الحديثة الجسدية والنفسية والمساواة وحقوق الإنسان والإنصاف والعدالة وغيرها ممّا بقي فوق العروش من قشور الفلسفة والفكر.
تنصاع الدنيا، ولم يخرج العرب والمسلمون، الى مقولة الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر الشهيرة التي جاءت بعد أهوال الحرب العالمية الثانية عندما كتب:
أنا موجود إذن أنا أفكّر. وبرأيه كان الوجود سوى الخبز الذي لا يبلغ حدود الشبع. لو رميت لحوم الدنيا أمام الكائنات المفترسة لرأيتها تتركها وتدير ظهورها إليها عندما تشبع. في لبنان لا يشبع السياسي ولا ينفضّ من فوق طبق لبنان ولا يفكّر بالهدوء والتطور والعدالة والبقاء والعمران، ولا حتّى بما بعد الموت.
كان الخروج من الموت بالنسبة لسارتر، أهمّ من التنظيرفي كيفية النصرفي الحروب والمحن الوطنية المغمّسة بالطائفية الكريهة والفساد المقرف. تلك مقولة تمكّن فيها جان بول سارتر فيلسوف المتعة والجشع من تعليق فلسفة العقل والمنطق من رجليها منذ إفلاطون الى حفيده رينيه ديكارت الذي أطلقها منذ 4 قرون وقال:
أنا أفكّر إذن أنا موجود. ماذا يعنينا التفكير بعد وأرضنا كانت مهد الفكر الأوّل، وصارت مشاعاً ضاع فيه الفكر وفقد تأثيره في تحوّلات الواقع، والخرائب من حولنا. صار لبنان مئة لبنان وصار العرب عربين مليون عربي فكرياً، بصيغٍ إسلامية متعدّدة لا علاقة لها لا بالعرب ولا بالإسلام ولا بالعصر، ومن خلال الشقوق تدخل دول العالم إليك بدلاً من أن تنخرط دولنا في بلاد العالم وعواصمها وطاولات القرار فيها.
نحن في عصر الإتّصال. أولادكم وأحفادكم يتواصلون مع دوائر القرار ومسؤولي العالم الذي صارت العين فيه في حجم الكون أو البيضة الصغيرة التي ترى وتحوق فيها العالم. أولادنا يتّصلون بحثاً عن وجودهم وخروجهم من سجونهم، لأنّ مسألة التلقّي والخضوع والإنصياع في التربية والمعرفة والسلطة والتوجيه قد إنسحبت نهائياً من الواجهة.
بات كلّ طفل في المعمورة يقبض على هاتفٍ خلوي بحجم قبضة اليد قادراً أن يمارس مهنة المصوّر والكاتب والمخبر والجاسوس والفيلسوف والقائد. نحن نستغرق في النوم وأسرّة أجيالنا لا تغرب عنها أنوار التواصل والإتصال. لا تحتاج المسألة الى تعقيدات ولا الى خوف أو معرفة ولا الى أيّ فكر. القصة مقيمة في إستحالة التمكّن من ضبط هذه الأدوات والأجهزة وتشغيلها بما يفترض الخبرة البسيطة في تحريك المفاتيح والكاميرات لإحتواء العالم.
أقول لكم أنّ التواصل صار حاجة خامسة قد تسبق الحاجات البيولوجية الأربع، لأنّك تجد ولداً يستغرق في الشاشة ولو بقي لساعات وحيداً. ليس مهمّاً. المهم أن يتّصل بما يتجاوز المأكل والشرب والنوم والجنس. تستيقظ الأفكار من تحت الوسائد وتحتلّ معظم أزمنة البشر في المدارس والقطارات والسيارات والطائرات وفوق الأرصفة لها مساحات خاصة بمستعمليها. وكأن الكاتب الفرنسي فلوبير قد وصل الى ما قاله أن لا أحد يرى أحداً في الدنيا لأنّ التفكير يستغرق المفكّرين في التطوير وتحقيق الأفكار.
أليست دبي وسادة محشوّة بالأفكار والأحلام الجميلة الإيجابية ولبنان وسادة محشوّة بالرغبة في السفر والهجرة مثل البروق نحو الخليج يجتذب أجيالنا وعنّا يتدحرجون نحو مدن وأرصفة الدنيا؟
أحاول في هذه المجال أن أشرك وأنكز السياسيين وصانعي القرار والمفكرين وأساتذة الجامعات في لبنان بأكثر من ظاهرة خطيرة أوّلها التنافر المقيت حول كلّ شيء طائفياً ومذهبياً وإنعدام الثقة والجشع والتشبث بالسلطة وثانيها الفساد الذي من المعيب والعار الوطني أن يصبح ثقافةً عارمة يصب في تشويه صورة الوطن وشلله وفقر العامة والنفور من المكان والزمان اللبناني، وثالثها ظاهرة عربيّة وإسلامية هائلة الخطورة تجتاح أجيالنا الشابّة، أعني الإرهاب وهذا يعني ضرورة الوعي للكوارث التي تنتظر مستقبل لبنان فوق الخارطة الكونية سواء في التفكير والتدبير أوالوعي لأهميّة تحصين مستقبل المجتمعات.
يكفينا الإجرام الذي يجتاح أزمنتنا وشعوبنا ومدننا العظيمة الضاربة في عمق التاريخ العالمي.

  • شارك الخبر