hit counter script

مقالات مختارة - جانا حويس - المستقبل

"تدمر"... عنوان الرعب الأسدي والوجع الأبدي

الأحد ١٥ شباط ٢٠١٧ - 06:33

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

سيبقى المسار الاجرامي التاريخي للنظام السوري حافل بعناوين وثائقية لسنين عديدة قادمة، ليس اولها تقرير «مسلخ صيدنايا» الذي نشرته اخيراً «منظمة العفو الدولية» ولن يكون آخرها وثائقي «تدمر» الذي عرضته قناة «العربية» بجزأيه. المضامين العامة ثابتة في وقائعها، احوال السجون والسجناء والسجّانين المتداخلة عضوياً بطبيعة النظام وعصبه وايدولوجيته، مشكلة رافعة ضرورية لاستقراره وديمومته.

يعتبر فيلم «تدمر» أول خطوة مهنية فنية في هذا الاتجاه، وأول عمل ينفرد معتقلون لبنانيون سابقون بتحقيقه، والفيلم اذ يحمل في ذاته هاتين المسألتين، يستكمل المشروع الانساني والمطلبي المزمن لاهالي آلاف اللبنانيين المعتقلين في السجون السورية عقب الحرب اللبنانية، بدخوله عالم الاقبية السورية وتسليط الضوء على لبنانيين واجهوا وربما ما زالوا يواجهون اقسى تحديات الحياة، المتمثلة بإخضاعهم لنظام تسلّطي قمعي سوري مزدوج: اول معقود على الادارة العسكرية الامنية للنظام وعلى كيفية تعاملهم مع المعتقلين اللبنانيين خاصة، وثان متعلق بضباط سوريين يستكملون التسلط العنفي على اللبنانيين بقرارات وممارسات شخصية وحشية.

وعلى الرغم من كونه اول عمل متكامل يصنعه معتقلون سابقون، فإن «تدمر» ينضم الى سلسة طويلة من الروايات والحكايا التي بقيت لعشرات السنين مطمورة، حتى بعد الافراج عن اعداد قليلة من المعتقلين اللبنانيين الذين طالتهم احكام العفو. فيلم يجعل الصورة الوثائقية انعكاساً لفداحة الواقع الانساني المجبول بالقهر والالم والتوق الى خلاص والعيش اليومي على التخوم القاسية للمواجهة، ومرآة توثيقية لا يكتفي أبطالها بسرد مقتطفات من المسار الفردي والجماعي للبنانيين الذين اعتقلوا يوم اجتاح الجيش السوري الاراضي اللبنانية، بل تحصّن الذاكرة من خطر النسيان والاندثار. لذا فإن «تدمر» وإن كان يتخذ من الاسلوب التمثيلي الواقعي بكل تفاصيله ركائز درامية لتحقيق فيلم يشكل امتداداً طبيعياً للعالم الوحشي هذا، ويتوغل في اعماق الصراع القائم بين اللبنانيين والنظام السوري ويكشف جوانب مختلفة عن المعتقلين اللبنانيين بعلاقتهم بأنفسهم داخل زنازين البؤس والاعتداء المادي والقمع المعنوي اولا، وبعلاقتهم بمحيطهم وتكيفهم مع الواقع ثانيا، وبمقارعتهم عدواً يطاردهم الى داخل الزنزانة من دون ان يتوصل الى امتلاكهم واخضاعهم لنزواته الاجرامية ثالثا، فإنه يساهم ايضاً في تفعيل التواصل المباشر مع العالم في خضم المباحثات الدولية حول مستقبل الاسد والنظام السوري برمّته.

وفيما ان العمل بأكمله لم يخرج عن المعالم الاساسية للافلام التي تدور احداثها في السجون، سواء تلك المتعلقة بجرائم متنوعة او المرتبطة بنضالات سياسية مختلفة، لكن المضمون مختلف كلياً، اذ يستند الى اساليب تعذيب ومعاملة وتصرفات انفرد فيها النظام السوري وعناصره، الى جانب الطابع الدموي الذي اشتهر فيه سجن تدمر في الوقت الذي عرف سجن صيدنايا بـ «سجن الاعدامات».

بدأت القصة عندما قرر معتقلون لبنانيون اعادة بناء مجسم للسجن الذي زجوا فيه وخرجوا منه بعد أعوام مريرة من التعذيب، في مبنى مدرسة مهجورة في رأس بيروت. توزّعوا أدوار الضحايا وكذلك الجلادين الذين أهانوهم وعذّبوهم. الفيلم من اخراج مونيكا بورغمان ولقمان سليم، عُرض في مهرجانات دولية وأحرز جوائز مهمة من مهرجان «رؤى الواقع» في مدينة نيون السويسرية وجائزة أفضل فيلم سياسي من مهرجان «الحرب على الشاشة» في مهرجان هامبورغ العام 2016.

حوّلوا استثناء خروجهم من سجن تدمر على قيد الحياة الى قاعدة اختبرها الشعب السوري ولو متأخرا، يردد احد المعتقلين «اذا الشعب يوماً اراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر». يروي انه في 27-12-1987، طلبه احد الضباط ليتم نقله من سجن الى آخر، خيّل له في البداية ان حكم الاعدام بحقه قد صدر، فيما كان القرار يقضي بنقله الى سجن تدمر. بسيارة «اللحمة»، اي سيارة المساجين المغلقة كلياً، عبروا الى منطقة صحراوية، منطقة منفية مجردة من كل معالم الحياة، سجن بغرف شبه مدمرة، روائح نتنة، اصوات صراخ وأنين، ضباط اشبه بالحيوانات، يتفنون في اساليب التعذيب بالدولاب، بالكرباج، بالخناجر، بالعصي الحادة، وصولا الى التبول في الطعام. كرابيج رباعية وثلاثية لا يعترف بها جلادو تدمر، فمتوسط الضربات يتراوح ما بين الـ 250 والـ 300 كرباج على اسفل القدمين والظهر والمعدة والرأس.

تقديس صورة الاسد حاضر بكثافة درامية، ووحشية التعبير عنه من خلال كل انفعال او حالة او قول او موقف لاي ضابط كُلّف بعدّ المساجين او ايصال الطعام لهم او تعذيبهم او حتى الاشراف على حالتهم الطبية والنفسية الصعبة. هنا لا اسماء لعناصر الاسد، بل ألقاب كل حسب وظيفته. فالرقيب «ابو شوربا» هو من يحضر وعاء من الماء المغلي على انه حساء، ويغطس رؤوس السجناء فيه قبل تناوله. الرقيب «ابو الخمسمية» هو من يصر على ايصال ضربات الكرباج الى الخمسمئة ضربة. الرقيب «ابو حديدة» وهو من يستخدم الآلات الحادة للضرب بها على الظهر. وفي ظل كل هذه المأساة، لم يجد احد المعتقلين طريقة اسهل من التواصل مع الحشرات التي كانت تغزو المكان، يتمنّى ان يتحول الى ذبابة حرة طليقة، يستغرب وصولها اليه، ويصحح مسار النملة الضالة، يطعمها فتافيت الخبز الجاف ويدلل العنكبوت.

في سجون الاسد قصص وحكايات تخطت كل منطق وعقل وإجرام وطباع بشرية وحشية، في هذه السجون تحديداً ما زال يقبع آلاف اللبنانيين، وتكشف وثائق رسمية عديدة سربها موقع «دمشق ليكس» منذ بدء الثورة عن اسمائهم وتواريخ ولادتهم والتهم الموجهة اليهم، مستنداً في معلوماته إلى مؤسسة «مسارات» التي حصلت على هذه الوثائق بعد انشقاق بعض الضباط. فيما نشر «المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة السورية» ايضاً وثائق رسمية موقعة من قبل العماد علي دوبا ومستشفيات ومخافر نقل اليها المعتقلون تفيد بأنهم في سجن تدمر.

اما في لبنان فعائلات وأهل وأبناء لهم خلف هذه القضبان أحبّاء، يعرفون جيداً انهم منهكون، ان ملامحهم الجميلة اختفت، ويسألون ماذا لو سقط الاسد، ماذا لو باتت سجونه مشاعاً واحداً مفتوحاً؟ يلعنون الحروب مرة اخرى ويلعنون النظام وكل أنظمة العالم الحامية له مرات ومرات... وينتظرون.
جانا حويس - المستقبل 

  • شارك الخبر