قال: "كيف يصير الانسان نافذا في هذا العالم يا ابي؟ اني احب ان اصير من قادة هذا العالم لكن كيف السبيل الى ذلك؟" .
تطلعت به وضحكت وابلغته بانّ هذا الحلم هو حلم كل بشري يدخل الى العالم وينبهر بأضوائه. وتابعت: "لقد كان هذا الحلم حلمي يا صغيري ومازال هذا الوهم يلاحقني احيانا، لكني قررت يا صغيري ان لا استسلم له كي لا اصير عبدا لمن لا ارغب بعبادته، فأصير سلاحا في يد القوي الذي كثيرا ما يستعملني في وجه الحق كي يعزز ما يعتبره حقا له في تعزيز سلطته ومحق اخصامه. المشكلة بأنّ من هو على قمة السلطة غالبا ما يمتلئ من نفسه، فيحوله الناس ويصير في عين نفسه الها، وتقدم الناس انفسها اليه كأضاحي يقدمها على مذابح السلطة فلا تتزحزح كرسيه. كثيرون من قادة هذا الكوكب هم هكذا يا ولدي، ولولا الموت لكانت زالت البشرية من غيّهم. اشكر ربك لأنه صنع الموت كي يذكرهم بمحدوديتهم".
ثم تطلعت في عيني ابني الصغيرتين فوجدت انهما استدارتا وكبرتا حتى صارتا كأنهما المحيطات، فتابعت قائلا:
"كي تصير من النافذين في هذا العالم عليك ان تذري مع الريح وان تذهب الى القوي او الملك، وتسلم نفسك له. وتقول: "شبيك لبيك عبدك بين يديك"، وتجاهر بتلاوة دستور الولاء له. فيسر بك ويجربك، فيحركك كما يرغب، تماما كما تحرك الريح اوراق الخريف، واذا ما وجدك مطواعا وفعالا يرقيك وينفخ فيك من غازاته، فتنتفخ وتطير فيفرح فيك الناس وتصير في عيونهم هاما، وانت واقعيا مارد لكن من وهم فتصير تخاف من صوت الحق الذي يصير يزعجك ويضيّع توازنك، فتبحث بدورك عن من يتملق لك وينفخك كي لا يفرغ غازك فتقع جثة على رصيف الايام.
لكن اذا ما اتتك فرصة يا بني فانتزعها، كن مستعدا ولا تضيعها لأنّها حتما ارسلت لك من فوق كي تحقق الهدف من وجودك. لكن اعلم بانها قد اتت لا كي تتباهى بل كي يقال بانّ مازال في هذا العالم ومضات.
نالت شعوب الارض استقلالها وحريتها يا ولدي، لكن البشرية لم تتحرر من اناها. فالحرية الحقيقية هي التحرر. الا فافرغ ذاتك من اناك كي يدخل الى تربتها الهواء والماء وزرقة وشموس السماء. فيغرس الروح فيها بذار المحبة التي تفرع اشجارا وثمارا تغنيك وتطعم كل من حولك، فيشكرون من زرع وسقى وقطف. نعم، افرغ ذاتك كي تمتلئ نعما، فالنعم تحتاج الى وعاء كي تقيم. افرغ وعاء نفسك من الانانية والغرور والشهوات، كي يتسع لروح الكون. سلمه حياتك ببساطة، واسأله ان يحركك ويخط بأناملك كلماته والوانه وانغامه وقصصه، فتتحقق الغاية من وجودك. وتمتلئ سلاما من فوق، يشتهيه كل اقوياء وملوك الارض.
تطلع بي وقال: "آه لقد فهمت، فهمت!". تمتم قليلا، وبدأ بإفراغ صندوق العابه، ومن ثمّ وضعه خارجا كي يمتلئ من زخات المطر والشمس والهواء.
قلت ذلك لابني علني اسمع بدوري اقوالي فأتشدد، ولا اقع في شرك ما لا اشتهي عن غير دراية.