hit counter script

باقلامهم - د. نسيم الخوري

تصوّر نفسك مكان عون أو جعجع وأنت تقرأ هذا المقال

الجمعة ١٥ كانون الثاني ٢٠١٧ - 06:09

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

 اللبنانيون في تحليلاتهم جدّيون. حبرهم مشدود. متجهّمون في سحنتهم، تعتورهم الكآبة والهموم ويسكنهم الضيق، بينما العالم مرتاح ومتصالح مع أجساده ونصوصه التي تلبس "الجينز". المسيحيون مسكونون بعون وجعجع، ولكن هل يتخيّل كلّ منّا نفسه عون أو جعجع؟
 نصل بتخيّلنا هذا الى الهوامش الشخصية التي تتجاوز كلّ الكتابات والتحليلات والمعلومات والشخصيات التي تطفح بها الشاشات. وإنّ أفضل جواب على ما أسأله مثالين متشابهين تقاتلا وتخاصما لأكثر من ربع قرن وهما يخطوان نحو الحوار في لبنان، وتوسّع هامش كلّ منهما الى درجةٍ تكاد تهدّد بعبدا بالفراغ الطويل:
مثال أوّل: بلغ العماد ميشال عون الذروة في ممارساته وقوته السياسية وربّما العسكرية والوطنية عندما تحوّل قصر بعبدا الرئاسي الى قصر الشعب وتحوّل الجنرال الى دولة الرئيس. وعلى الرغم من طموحه للرئاسة ونفيه قسراً وقهراً 15 سنة الى فرنسا وإعتباره معادلاً لشرف فرنسا على ما قال الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران يومذاك وحرمانه من التعاطي المباشر بالسياسة، ثمّ عودته من منفاه، وتمكّنه من أن يصبح رئيس أكبر كتلة برلمانيّة مسيحية تخوّله أن يكون رئيساً للجمهورية، فإنّ في الأمر هامش مهمّ جداً، يقول أنّ الرجل يعتبر نفسه صاحب حق الأولوية à priori الذي يجعله في الواقع والمنطق أكبر بكثيرٍ من موقع رئيس الجمهورية.
لكنّك لو كنت في مكانه لأمكنك ربّما أن تفهم معنى أن يظهر مسكوناً لا ب"عقدة" كرسي بعبدا التي أفرغت من قوائمها وصلاحيتها وهي تخبو اليوم ويهرّ قشّها وإسفنجها وتستغرق في الفراغ والإنتظار والحواجز الهائلة التي تنتظر عون. تنتظره في ممارسة السلطة وهو لا يمكن إلاّ له ولا لأحد غيره نسيان اللحظة التي خرق فيها الطيران السوري الحربي الأجواء اللبنانية، وكسّر لا كرسي بعبدا من تحته وحسب، بل كسّر قصر بعبدا من فوق رأس لبنان واللبنانيين الى أمورٍ لا فائدة في إستعادتها. يمكن التذكير أن صورةً للرئيس حافظ الأسد وجدت فوق مكتبه آنذاك ، ويمكن التذكير أن كلمةً قاسية أو ناقصة أو زلّة لسانٍ Lapsus من العماد عون في الرئيس حافظ الأسد ، كانت لربّما السبب أو "القشّة التي قصمت ظهر البعير" كما يقول المثل العربي. ليست هي السبب الوحيد بالطبع، بل السبب الوجيه الذي يجعله ولو ركعت أمامه الدنيا صاحب حق في قطف كرامته وعودته الى القصر الذي منه خرج مقهوراً خائباً لم ينم ليلةّ منذ ذلك ال13 تشرين دون أن يتجسّس كرامته التي تعني شخصه ووطنه وهو من المعجن العسكري العريق.
مثال ثان: زجّ الدكتور سمير جعجع قائد القوات اللبنانية في سجنٍ خاص في وزارة الدفاع لفترةٍ طويلة دامت 11 عاماً في زنزانة صغيرة.تصوّر نفسك مزروباً في غرفة بيتك 11 يوماً. بعد خروجه إستعاد قوّته وقواته ولملم شتات القوات ومؤسساتها ووسائلها وهيكلها من جديد، وركّز علاقاته المحلية والإقليمية التي جعلته في موقع مناهض ومشابه لعون. وكان من الطبيعي أن يتطلّع لإستعادة كرامته متطلّعاً الى المنصب الأول في الجمهورية من دون المرور لا في النيابة ولا في الوزارة. يروى أنّ جعجع همس في أذن أحد حراسه في السجن بأنّه يوماً سيصبح رئيساً لجمهورية لبنان.
وعندما أعلن ترشحه رسمياً لرئاسة الجمهورية ، كان قد أنجز وبإشرافه الدقيق ببناء سجن مماثل أونسخة طبق الأصل عن السجن الذي كان فيه وذلك قرب مقرّه الرائع والجميل في معراب، ثمّ أزاح الستار عنه وعن بعض ما عاناه فيه ليعلن للعالم في ما بعد أنّه المرشح الجدي لرئاسة الجمهورية وما زال.
بعد خروج الرئيس ميشال سليمان بإنتهاء ولايته، وفي الجلسة الأولى لإنتخاب رئيس الجمهورية وقد كانت تبثّ مباشرة من على الشاشات ويتابعها قائد القوات، كنت ضيف شاشة الN.B.N.. وقلت لمن يدير المقابلة معي: لاحظ إبتسامة جعجع العريضة في اللحظة التي يلفظ بها إسم سمير جعجع بعد فضّ أوراق النواب المقترعين. هكذا كان. كان يمكن لأيٍ كان أن يلاحظ الإبتسامة الرضيّة الواسعة على صفحة سمير جعجع ويسجّلها ما أن لفظ إسمه للمرّة الأولى. إنّك لو كنت مكانه وحاملاً لتجربته فإنّك لربّما تتصرّف مثله وأكثر.
لنخرج من لبنان، حتّى لا يزعل لا الجنرال ولا الحكيم لهذه المقاربة.
مثال ثالث: الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش أصابه الأرق عشر سنوات ولم يخلد إلى النوم إلاَّ بعد أن أزالت قواته الرقمية Digital الرسم الفسيفسائي الذي كان يمثّل صورة والده الرئيس الأسبق جورج بوش، والذي أمر صدّام حسين آنذاك بلصقه أمام مدخل فندق الرشيد أشهر فنادق العاصمة بغداد بعد حرب عاصفة الصحراء (1991)
كان النزلاء يدوسون فوق الرسم وكان الرئيس الأميركي ينقز لدى كلّ خطوة فوق صورة أبيه، وكأنّه يسمع معاني المرارة الشخصية والعائلية لا وقع الأقدام فوقها وحسب. يروي صديقي المحامي اللامع ماجد فيّاض وكان ناطقاً بلسان الأمين العام للأمم المتحدة يومذاك: أن مفتشي اسلحة الدمار الشامل في العراق كانوا يرفضون السير فوق رسم الرئيس الاميركي إلاّ بعد فلش السجاد فوق بلاطة الرئيس الأميركي، وكانت المشيئة العراقية تلزمهم على النزول في الفندق عينه، فقط كي يدوسوا على رأس الرئيس الأميركي.
ذات يوم وكان عصام فارس يولم في أميركا محتفلاً بعيد ميلاد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الأب ، وصل جورج دبليو بوش الإبن الى العشاء فجأةً، وكلّفه بصفته نائب رئيس مجلس الوزراء اللبناني، بالذهاب بطائرته الخاصة الى الرئيس صدام حسين والطلب إليه بإزالة اللوحة وإلاّ.......
سافر الرجل بطائرته الخاصة الى بغداد عبر بيروت للقيام بالمهمة لكن دون نتيجة إيجابية.
سقطت بغداد وسقط الرئيس العراقي بالنسبة للعالم كلّه بعدما اسقط تمثال صدام حسين الساعة 17 من 9 نيسان/إبريل 2003، لكنه أي صدام لم يسقط بالنسبة للرئيس الأميركي بوش إلاّ بعدما إتّصل به ضابط أميركي مكلّف منه شخصياً أعلمه بالهاتف الجوّال الخاص ببوش تنفيذ مهمّة تكسير وإزالة لوحة الفسيفساء بالكامل.
أمره الرئيس بنشر الصورة المهشمة بواسطة الأقمار الإصطناعية على العالم، وفيها ظهرت وشاهدنا جميعاً صورة لجنود أميركيين يقفون أمام فندق الرشيد وقد أزيلت معالم لوحة الرئيس الأب كلياً لكن بقي ظاهراً فيها ملامح عنقه وكتفاه. وعلى الرغم من ذلك، إنتظر الرئيس الأميركي حتى 11 إبريل ليعلن السقوط الرسمي لبغداد في مؤتمره الصحفي ليتعرض فندق الرشيد بعدها للنهب.
بصرف النظر، أخيراً، عن الأسباب المحلية والإقليمية والدولية والمخططات التي دمّرت بعض المدن السورية، فإنّ هناك من يقول أنّ في زلّة اللسان السوري أو الكلمة الجارحة التي أطلقت بعد قمّة عربية، يقوم هامش أو سبب شخصي حوّل دولةً عربيّة عريقة في التاريخ ساحات تجارب للسلاح والحروب والإرهاب والمذابح والأحقاد والخرائب العربية والإسلامية المنتشرة، ووضع العالم والمسألة السورية في محورية معقّدة مستحيلة منذ الأساس هي إسقاط الرئيس السوري الذي وضع الشرق الأوسط في مناطق المستحيل.
قد لا تنتهي الأمثلة والتجارب المريرة التي كابدتها وتكابدها الشعوب تبعاً للهوامش الشخصية في الصراع، وقد تتباين الأمثلة في ردود أفعال أصحابها بين من يذهب الى السكينة والنسيان وإحتقار السلطة أو بين من يكابر ويجتهد لإعادة إعتباره وتحصيل كرامته، تحرّكه الكثير من الظروف والمعطيات، لكنّ لا تهملوا الشخصي الذي يبقى حيّاً في الأحلام وأحلام اليقظة والتحدي لتتحقق الذات فيذوي الوهج إذا ما يتحقّق.

  • شارك الخبر