hit counter script
شريط الأحداث

- راكيل عتيِّق - الجمهورية

من وجع الحياة تمخّضت إبتسامة... فيروز

الإثنين ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٦ - 06:40

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

ثمانون وعام والحياة مُبتسمة. تبتسم بخجل وصمت ناثرة الطمأنينة. للغريب الضائع بين الناس، لوطنٍ يتمزّق خوفاً ليحيا جمالاً من جديد، لمن شرّدته الرياح والغربة والأوجاع، لفتاة تنتظر شروق الحب في عينيها، لِتَشقّق يديّ أمّ وجبين أب. لدموع الله، للمساكين، للهاربين، للراحلين، للمنتظرين... لصراخ الحياة، ابتسامة. التوقيت الزمني وَهم كوَهْم اللاخلود. لنَعدّ الابتسامات آلاف المرات ثمانون ومرة لِيتعب الوقت ويستريح. الابتسامة أبدية، الصوت لا يرجع إلى الرحم الذي مزّقه، الصوت وُلِد على اسم الخلود، فيروز.في 21 تشرين الثاني 1935 وُلِدت نهاد حداد، على شباك المطبخ في زقاق البلاط في بيروت وُلِدت فيروز، ومن حينها ظلّت تولَد فيروز بين الغلس والفجر. مع الأخوين فليفل وُلِدت، ومع حليم الرومي، ومع الأخوين رحباني، وبزواجها من عاصي الرحباني وُلِدت.

مع محمد عبد الوهاب، مع فيلمون وهبه، مع سعيد عقل وجبران خليل جبران ونزار قباني وجوزيف حرب... وُلِدت. وَلَدت زياد ليَخلقها زياد الرحباني من جديد. مع رحيل عاصي الزوج وُلِدت. مع مرض هلي ورحيل ليال وشِعر ريما وُلِدت.

مجد بعلبك

وُلِدت فيروز في فلسطين، هناك حيث تقرع أجراس العودة طالما تطلع شمس، وُلِدت في بيروت السلام وفي الضيعة، ضيعة دلّتنا جميعاً إليها لكننا لم نجدها إلا في صوتها. وُلِدت في بعلبك، بين عواميدها وناسها وشمسها التي تطيل السهر.

هناك كتبت مجدها ومجد بعلبك الجديد. مَحت تاريخ ما قبلها، أصبحت بعلبك فيروز منذ «أيام الحصاد» عام 1957. هناك غنّت «لبنان يا أخضر حلو»، وأشعلت شمعتها سنة تِلو الأخرى، مسرحيات وحفلات.

اليوم «ترجع عدراج بعلبك» بعد آخر عودة في عام 1998، وستحتفل بها بعبلك عشيّة عيد الاستقلال وتحمل أعمدتها صورتها. هي التي تقول «الغنية فوق ببعلبك بيتغيّر إحساسها».

في سوريا الشام «كلام المجد في الكتبِ» وُلِدت، من بردى وُلِد صوتها. من الأردن ومكة والقاهرة، من شوارع المغرب... من باريس وأميركا، من كلّ بقعة حياة، مع كلّ نَفَسِ بقاء وُلِدت. وكلّ بقعةٍ ونفس لَمَسَها الصوت، تحتفل اليوم بولادة ابتسامة الطمأنينة، ابتسامة الأمل. ابتسامة الحياة.

أين فيروز؟

«كيف يمكن الكلام عن صوت؟ وكيف إذا كان الصوت هو صوت فيروز؟» يقول المفكّر فواز طرابلسي. نزيد، وكيف إذا كان صوت فيروز هو صوت الحياة؟ الحنين والجمال والحضن؟ أمن كلام يترجم دفء حضن؟ وجمال يدٍ؟ وحنيناً في عينين؟

فيروز بصوتِ كلّ أمّ، تمسح دموع طفلها بالسكون «يلا تنام يلا تنام... وتشتشي عَالتشتشي...». أنعدّ كم إنسان تجرّع هذا الحبّ بين يديّ أمه وابتسامة فيروز؟ أنعدّ كم مرّة رسمت فيروز ابتسامة على ثغر أمّ؟ «عيناكِ، ما عيناكِ؟ أجمل ما في كوكب في الجلدْ... أمّي يا ملاكي يا حبّي الباقي إلى الأبد».

فيروز مع كلّ موجوع يُصلّي «بيتي أنا بيتَك وما إلي حدا من كتر ما ناديتَك وِسِع المدى...»، وكلّ مخلوق يناجي «يا ساكن العالي طلّ من العالي... عينك علينا وعلى أراضينا» و»ساعدني يا نَبع الينابيع». صوت فيروز كالقمر «بيزور الطرقات بيشعشع كل الدّني... بيضوّي بالسهريات عالفقير وعالغني».

فيروز في كلّ مرسال وعتمة ليل، صوتها يطال ما خلف التلال وبُعد السما وكِبر البحر. في الوثائقي الذي أعدّه عنها فريديريك ميتران عام 1998، تقول فيروز «اللي ما بيعرفني... بيعرفني بس يسمع غنّياتي... كلّ نفسي بتعبّر عنها غنيتي».

فيروز هي نفسها في كلّ أغنية، في كلّ حوار مسرحي، في كلّ إطلالة سريعة عبر الشاشة. وكأن كلّ الشخصيات فيها، وكأنها الشخصيات كلّها. وحتى طبقة صوتها - كلاماً - لا تتغير، إلّا أنّ الصراخ والثورة والغضب يَصلون إلى أبعد ما في عمقنا كما يلمسنا السلام ويضمّنا الأمان بصوتها.

قصة وحكاية

في كل مسرحية، في كلّ أغنية وفي كلّ حوار لنا قصة مع فيروز، ولها حكاية معنا. هي «زيّون الغريبة» في مسرحية «ميس الريم». وهي الغريبة عن أعيننا القريبة من أسرارنا. نسألها «منين بيقطفوا النسيان»؟ من ساحة ميس الريم، إلى ساحة مدينة «سيلينا»، حيث تقف «هالة» وحيدة، لم تجد إلّا «سهرية» الغريبة، ملجأ آمناً يدفئ صقيع المشاعر.

ندهتها «سهرية خديني لعندك، خبّيني بأوضتك البيضا عن عيون السما». هي «غربة» في «جبال الصوان»، التي صارت عندنا جميعاً «أغلى من الأرض والبيوت...»، هي الملكة التي تخسر ابنتها «بترا» على مذبح
الوطن.

لا ندري من أين يأتي ما يأتي في صوتها وهي تستقبل زوجها الملك العائد إلى الديار منتصراً، انتصر للوطن ولكنه خسر ابنته، «يا سيّد المملكة تمسّك بالفرح وتصيّد السعادة الشلال انجرح...». هي «عطر الليل» في «أيام فخر الدين» وفي أيامنا، ندرت «صوتها وحياتها لمجد لبنان».

هي التي زرعت الأمل والإيمان في ناس «المحطّة» وفي كلّ واحدٍ منّا «إيماني ساطع يا بحر الليل... ما بيتكسّر إيماني ولا بيتعب إيماني...» هي السجينة البريئة في «لولو»، تختم المسرحية مُختصرة بوقفتها وصوتها وكلام الأخوين رحباني النظام الحياتي الذي نعيشه «ناس بالخنادق ناس بالبارات العدالة كرتون الحرية كذبة... صار الحبس كبير وكل حكم بالأرض باطل...».

هي التي صرخت بصوت الناس بخبزهم بحبة الزيتون بقهرهم بالبندورة والسقف الآمن. حواراتها مع الحاكم أو الملك أو المسؤول، صرخة حق حملتها «بيّاعة البندورة» في «الشخص»، وزاد الخير في «ناطورة المفاتيح»، وفي «صح النوم» و»جبال الصوان» و»يعيش يعيش».

ماذا تقول فيروز؟

عشرات المسرحيات، آلاف الأغنيات وثلاثة أفلام شكّلوا وطناً من غيمٍ أزرق وسطَيحات حمرا وطرقات خضرا. ناس من وطن وليس من ورق. ملوك للناس وليس للعشب والحيطان. وطن اسمه فيروز. فيروز التي تقول بالعامية: «الأفلام اللي عملتها بقي فيها كل الإشيا اللي مِنحبها... البيوت القصص الناس الجبل...»، وكلّ من يعيش في الوطن الفيروزي يقول لها كلّ ما حمله صوتك «في كلّ الإشيا اللي مِنحبها...».

«اللي بيعطي السعادة بكاس بترجعلو بمية كاس»، فيروز أعطتنا السعادة جرعات والأمل كاسات والحبّ رشفات. وكلماتنا منها وإليها تعود. آخر لقاءٍ للجمهور مع فيروز كان في شهر كانون الأول من عام 2011 في البلاتيا - جونيه. من وقتها والجميع احترف انتظار الموعد المقبل.

عالمفرق، بالدكانة، على رمل البحر، من لبنان الكرامة، من على شط جبيل ودراج بعلبك وغابة الأرز، من سوريا النازفة وجعاً ودماراً، من بغداد الموجوعة والأردن القلق، من فلسطين المنسيّة... إتّحدت الأصوات التي جمعتها ابتسامة الحياة فيروز.

راكيل عتيِّق - "الجمهورية"

  • شارك الخبر