hit counter script

مقالات مختارة - الفضل شلق

فضاءات الدولة والأخطار الداهمة

الجمعة ١٥ تشرين الأول ٢٠١٦ - 06:59

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

السفير

تتعدد فضاءات الدولة والأخطار الداهمة في كل منها عندنا.
÷ أولها الفضاء العمراني وهو معني بالإنتاج والبنى التحتية. يتهدده الإفلاس والانهيار الاقتصادي.
÷ ثانيها الفضاء الزماني ـ المكاني وهو معني بالدستور والقانون، ويتهدده التفسخ والانحلال الأخلاقي.
÷ ثالثها الفضاء السياسي وهو معني بالتسويات وتراكم التسويات، ويتهدده العجز وعدم قدرة النظام على أخذ القرار وتحقيق الاستقرار.
يمكننا تخيّل هذه الفضاءات وكأنها كرات، كل واحدة منها داخل الأخرى، الفضاء العمراني يسبح في الفضاء الزماني ـ المكاني، وهذا يسبح في الفضاء السياسي.
في كل من هذه الفضاءات أخطار داهمة. في داخلها الجواني الفضاء العمراني المتعلق بالإنتاج والبنى التحتية. وهو فضاء تلزمه قرارات حاسمة إذ إن الأخطار الداهمة تهدده بانهيار وشيك.
والقرارات لا يمكن اتخاذها إلا على الصعيد السياسي. ومن يتولَّ هذا الأمر فعليه الحزم والعزم والقدرة على التسويات وتراكم التسويات وحسم الأمور لمصلحة البنى الاجتماعية الداخلية.
في ما يتعلق بالفضاء الأول العمراني، أي الاقتصادي، علينا الاعتراف بالفشل، إذ لم يستطع النظام السياسي خلال العشرين سنة الماضية إشادة بنيان اقتصادي داخلي مستقل، ولم يستطع بناء اقتصاد يعمل دون تبعية للخارج، وبالتالي لم يحقق البلد أي استقلال اقتصادي، بل ربطه بالخارج، (الدين العام وإيداعات المصارف). يكاد النظام المصرفي يعاني أزمة حادّة.
تضخم الإيداعات المصرفية أصبح يشكل عبئاً على الاقتصاد، ذلك أنه دون استجلاب مزيد من الإيداعات فإن القطاع برمته معرّض للانهيار.
ينطبق على ذلك القول: «وداوني بالتي كانت هي الداء». لم يستطع هذا النظام خلق فرص عمل للبنانيين المقيمين، فاضطر مزيد من الشباب، بمن فيهم المتعلمون والمهرة إلى الهجرة، وازداد الاعتماد على الخارج إن كان لجهة تدفق ما تسمى الاستثمارات (الإيداعات من الخارج) أو التحويلات من المهاجرين. معنى ذلك أن البنية الاجتماعية ـ الاقتصادية الداخلية للمجتمع اللبناني تخضع لضغوط خارجية شديدة، وتكاد تنهار وتتمزق بفعل هذه الضغوط. تبعية لبنان للخارج تبدأ من هنا، والاستقلال يصبح كلمة جوفاء. يؤدي ذلك إلى القلق الدائم حتى يكاد اللبنانيون أكثر الجماعات في العالم استهلاكاً للمهدئات. ليس أقل من ذلك التأثير على الحريات في الداخل. الخارج يفرض عليهم القبول بما كان لا يرضيهم.
أما الفضاء الزماني ـ المكاني، فالقوى التي تتحكم به تجد فرصتها، في تغوّل الملكية الخاصة وتعديها على المجال العام. منها أن المشاعات تصير أملاك دولة وهذه تباع للمصالح الخاصة. مع تدني أسعار العقارات المبنية وغير المبنية تصير هذه أهمّ موضع لحفظ الثروات. الثروات المالية التي يفترض أن تتجه للاستثمار في الإنتاج يجري اكتنازها في العقارات، وأصحاب الثروات المالية هم الأكثر قدرة على الشراء. من له يعطى ويزاد، وغيره يزداد فقراً.
يكاد الاقتصاد اللبناني أن يكون مختصراً في إيداعات المصارف والعقارات، المبنية وغير المبنية. يصعب تسييل هذه العقارات غبّ الطلب. يتطلب ذلك وقتاً طويلاً بالنسبة لحركة المصارف وإيداعاتها. كل ذلك يدفع إلى توقع انفجار فقاعة مالية تجرف أكثرية الناس في طريقها. لا يهرب منها إلا الشطّار الذين يعرفون كيفية استخراج المال من المال. يكاد ذكاء اللبنانيين ينحصر في الحفاظ على الفتات الذي يملكونه، مع فقدان الأمل بتحسن الأحوال.
جرى سلخ الفضاء الزماني ـ المكاني عن الفضاء العمراني الإنتاجي والبنى التحتية. ليس ما يستثمر في قطاعي المصارف والعقارات على علاقة بالاقتصاد الإنتاجي والبنى التحتية. يكاد الإنتاج يكون كالأيتام على مأدبة اللئام. الروابط بين الفضاءين معدومة أو شبه معدومة.. القطاعات الاقتصادية تنهار، والأمر نفسه يمكن أن يصيب قطاعي المصارف والعقارات. عدم الترابط يجعل البلد أشبه بشاحنة تتجه نزولاً دون فرامل ومن دون سائق. الأمل أن ينتخب رئيس للجمهورية في اليوم المحدد (الإثنين) فيصير لدى الشاحنة سائق. لكن عليه أن يتدبر أمر الفرامل، وإلا فإن الوادي المهوار بالانتظار.
ثالث الفضاءات هو السياسي: يسيطر عليه أهل السلطة. وهم جزء حيوي من القوى المالية العقارية الكبرى، أو يحاولون أن يصيروا منهم. تتمزق هذه الطبقة بالنزاعات الطائفية، ظاهرها طائفي وباطنها مبني على الجشع والطمع لمزيد من الاكتناز وقليل من الاستثمار في الإنتاج. قلة من كل طائفة يستفيدون والأكثرية، من كل طائفة أيضاً، يتجه وضعهم الاجتماعي ـ الاقتصادي إلى خط الفقر أو ما دونه. مع عدم وجود صناعة وزراعة قويتين، يكاد جميع اللبنانيين يتحولون إلى البرتلة، لكنها ستكون بروليتاريا رثة. لا ننس أن البروليتاريا بالتعريف هم الذين يعملون دون أن يملكوا وسائل عملهم. يضطرون إلى المزيد من الاستدانة. وعند عجزهم عن السداد يسلخ عنهم ما تبقى من ثرواتهم القليلة من أرض أو أموال منقولة أو عقارات مبنية.
ما يُعتبر شللاً في الحياة السياسية هو مناسبة لدى الطبقة الرفيعة، التي تعدّ بالمئات (وربما الآلاف، وهذا أمر مشكوك فيه) للانقضاض على الأملاك العامة والخاصة والمزيد من البرتلة (الإفقار للبنانيين).
الخروج من المأزق يبدأ بالسياسة. المعنى المطلوب للسياسة هنا ليس التسوية فقط، بل القدرة على القرار، وكلّ قرار حازم هو في بداية الأمر تسوية من نوع ما، وفي النهاية إرادة حازمة لإعادة تركيب البنية الاجتماعية ـ الاقتصادية لبناء اقتصاد مستقل منتج خارج عن التبعية معتمد على عمل اللبنانيين في بلدهم. الطائفية ليست حجّة إلا لمن أراد الاستغلال لمصلحته. تجدر معالجة أمر الطائفية كي لا تبقى معوّقاً في وجه الذين يعملون لتلافي الانهيار. لم تعد الطائفية مصدر تنوع ثقافي وحضاري. الخ... بل صارت عائقاً في وجه التقدم الاقتصادي، وأصبحت في صلب عوامل الانهيار العمراني. وإذا لم يكن القرار اللبناني متجهاً إلى المعالجة فإن الاستقرار الاجتماعي في خطر داهم.
الميثاقية لدى البعض شيء جميل. لكنه خطأ نظري فادح. الإجماع مستحيل. هو فقط هدف جميل يسعى إليه الناس ولا يحقق. في السياسة تكون هناك موالاة ومعارضة، وحوار ونقاش في مجتمع مفتوح. بذلك ينتقل الصراع على الدولة إلى صراع في الدولة. لنتذكر أن الدولة إطار ناظم للمجتمع، وإذا لم تكن كذلك فهي سلطة للسيطرة على المجتمع. كل أنواع السيطرة تقود إلى الاستبداد، والاستبداد يقود إلى تفسّخ المجتمع وتدميره.
لا يتوقع أحد إلغاء الطائفية سريعاً من النفوس أو النصوص. لكن المطلوب أن يغير أهل السياسة من الخطاب الحادّ ويغيروا فحوى الخطاب من توزيع الحصص إلى النموّ الاقتصادي. إذا لم يكن الاقتصاد والعمران هما جوهر السياسة فإن الأخطار الداهمة لن تترك للبنانيين ما يبعث على الأمل.
قضينا وقتاً طويلاً في الصراع على ما هو موجود وتوزيعه. آن الأوان لإبداع ما لم يكن موجوداً. وهذا هو جوهر النموّ الاقتصادي. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بالاقتصاد وحده يستمر البلد.

  • شارك الخبر