hit counter script

مقالات مختارة - جمال غصن

نصف الكوب الملآن في «أزمة» الصحافة

السبت ١٥ تشرين الأول ٢٠١٦ - 06:54

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الاخبار

في شهر نيسان من عام ٢٠١١ نشر خبر في الإعلام الأميركي عن تفوّق برنامج كومبيوتر في تغطية مباراة بايسبول على كاتب صحافي من لحمٍ ودمٍ. إذ فاتت الأخير تفاصيل مهمّة في التغطية بما فيها الإنجاز الأهمّ الذي كان قد حققه الرامي في المباراة، بينما أبرزَ الكومبيوتر هذا الإنجاز في عنوان مقاله. يشفع للإنسان أن البايسبول رياضة مملّة، لذا من الطبيعي أن يسهو الكاتب خلال مشاهدة المباراة. البرنامج الذي طورته شركة Narrative Science (علم السردية) أصبح ضالعاً في كتابة المواضيع الرياضية وتغطية أخبار الأعمال، وبإمكانه كتابة المقال نفسه بأساليب مختلفة حسب الجمهور المستهدف. وهناك برامج وتطبيقات أخرى تكتب شعراً ونثراً وأدباً روسياً وأفلام رعب. اليوم الذي يُستبدل به معظم الزملاء الصحافيين بسطورٍ رقمية من أصفارٍ ووُحدان ليس بعيداً. ولكن التطور التكنولوجي ليس هو السبب في موجة الطرد التي طالتهم مؤخراً في بيروت والتي ستطال المزيد منهم في الأشهر المقبلة. كما أنّ حجة «أزمة الصحافة الورقية» لا تنطبق على السوق المحلية، كون صحفنا اليومية تخلّت عن الإعتماد على الدخل الناتج عن بيع الأعداد اليومية كمصدر رئيسي لتمويلها منذ ما قبل الإنترنت.

صحافة بيروت مأزومة منذ إستلام أول رئيس تحرير لحقيبة أموال من رئيس أو أمير أو ملك أو رجل أعمال في «الحقبة الذهبية» للصحافة، ولذلك فإن الشّح المستجدّ في تلك الحقائب بادرة نهاية أزمة وليس العكس.

إقتصاد الصحافة

عندما تتحدّث صحف أجنبية كبرى عن أزمة الصحافة الورقية فهي تتحدّث عن صناعة كانت مربحة بما كانت تجنيه من مبيعات وإعلانات، وفجأة تغيّر النمط الإستهلاكي للأخبار مع إنتشار الإنترنت، وهبط عدد الذين يرغبون بدفع المال مقابل معلومات يمكن الحصول عليها بالمجان وبشكل أسرع. إتكال تلك الصحف كان على عشرات أو مئات الآلاف من المستهلكين اليوميين، وخسارتهم دفعتهم للبحث عن مصادر دخل أخرى من إعلانات وإشتراكات على الإنترنت. لكن الأزمة وقعت لأن المصادر المالية الجديدة لم تكن بحجم تلك التي فقدوها وبذلك إضطروا لتقليص مصاريفهم بشكل كبير، أو حتى الإغلاق الكامل لعملياتهم نتيجة الإفلاس.
أما هنا في لبنان، فيبدأ الحديث عن أزمة الصحافة كلما واجهت مؤسسة إعلامية مشاكل تمويلية. إذاً، توصيف «الأزمة» في هذا السياق تمويلي بحت. إختفى الحديث (في العلن على الأقل) عن «أزمة» جريدة «السفير» عندما ظهر، بسحر ساحرٍ أو بمكرمة كريمٍ، وقبل أيامٍ من إغلاق الجريدة وصرف «الأُجراء» فيها ــــ كما تم وصفهم من قبل الإدارة (الأسرة) المالكة ــــ عندما ظهر مالٌ كافٍ لتجاوز الأزمة. لم يزد عدد المشتركين في الجريدة فجأة ولا إزداد مدخولها الإعلاني، ولكن «الأزمة» انحسرت. ليس هناك، منطقياً، ما يبرّر المثابرة على طباعة صحف خاسرة تنزف مالاً ولا تجذب قرّاء. هذا، وتعتبر جريدة «السفير» من الصحف المقروءة نسبياً، إذ أن هناك صحفاً تصدر يومياً في بيروت ولا تبيع مئة نسخة. فمن هو المستهلك في هذه السوق؟
في سوق صحافية تطفح بالمال السياسي، يصبح من الأسهل الإرتزاق بدل السعي لبناء جمهور. إستقطاب ألف قارئ أصعب بكثير ويدرّ مدخولاً أقل من نشر بيانات ترويجية للمصارف على سبيل المثال. تتفاقم هذه المشكلة عندما يأتي مموّل كبير مع كميات غير محدودة من المال ويقرّر إغراق السوق بماله على مدى سنوات، بل عقود، من الزمن. حتى من يرفض الإرتزاق ويحاول مشاريع «مستقلّة» يصعب عليه العمل في هذه الظروف، إذ لا تمكن المنافسة في سوق تتضخم فيها التكاليف وتتشتت فيها القدرات البشرية.

صحافة الكاونتري كلوب

ليس بمفاجئ أن يهجر القرّاء الصحف عندما تخسر الصحافة حافز الوصول إلى أوسع جمهور ممكن، وتركّز على إرضاء مصادر التمويل السهل. لكن بما أن الجيل الصحافي الحالي بأكمله متواطئ، وإن كان بدرجات متفاوتة، في تكريس هذا الجو، تكثر التبريرات للكسل الصحافي، والفتاوى التي تسهّل عليهم (وعلينا) الإقتناع بواقعٍ مزرٍ. فالمجتمع الصحافي اليوم أشبه بنادٍ خاص منعزل جغرافياً وإجتماعياً عن الشعب، يكتبون عن بعضهم البعض ولبعضهم البعض، ويتنافسون في ما بينهم على تمويلٍ تجفّ منابعه يوماً بعد يوم. هذا النادي هو السبب خلف نشر عشرات المقالات في الصحف عن عرض رقص معاصر يحضره العشرات، بينما لا تجد مقالاً واحداً في صحف لبنان عن ظاهرة «جنّوا نطّوا» التي أرقصت الملايين. ولذلك ايضاً تحظى مباراة كرة قدم تجارية لكهولٍ أوروبيين بتغطية إعلامية أوسع من فوز تاريخي لنادي النبي شيت على النجمة ــــ بطل لبنان الدائم حتى لو رفع غيره الكأس. أزمة الصحافة ليست في إغلاق الصحف، الأزمة هي في تغييب الصحافة عن الصحف، وفي أن جيلاً أو أكثر من الصحافيين إرتضى التبرير لتمويل أفسد صنعته بحجة «بدنا نعيش»، أو الكذب على الذات وإقناع النفس بهوامش من حريةٍ متخيَّلة. الصحافي الداخل إلى المهنة اليوم مصيره إما الإحباط أو الفساد أو الإرتضاء بدور دون الصحافة من أجل معاشٍ قد لا يأتي، لا بل قد يحجب لأشهر، بغية إلزامهم على التنازل عن حقوقهم كما هي الحال في «المستقبل» و«النهار» وغيرهما.

حقبة الذهب الأسود السوداء

لا يمكن تجاهل الدور التي لعبه صعود الفضائيات في تحويل التمويل عن الصحف في تسعينيات القرن الماضي. ففي «العصر الذهبي» للتمويل الصحافي، كان في وسع كاتب عامود تطبيلي لطويل العمر أن يشتري شققاً في لندن وباريس.


يبدو تميم بن حمد الأكرم بعد انكفاء أموال آل سعود وطموح جمال دانيال السياسي
أما اليوم فالإرتهان التام قد يمكّن الصحافي من شراء سيارة أو زيارة أوروبا لأسبوع. المال الذي كان يصبّ في حسابات أصحاب الأقلام المرتشية تحول إلى أصحاب الطلة التلفزيونية. في مطلع العقد الحالي، كانت سوق الفضائيات العربية التي كانت تشمل ألف ومئة محطة تلفزيونية، تجني أقلّ من خمسة عشر في المئة مما تنفقه. كانت سوق كاملة تقدر كلفة تشغيلها بسبعة مليارات دولار تعمل بعجزٍ يقارب التسعين في المئة، وفق ما صرّح به المدير السابق لتلفزيون «المستقبل» والإداري في مجموعة «إم بي سي» السعودية علي جابر في محاضرة في بيروت عام ٢٠١١. ما لم يقله جابر هو من كان يغطّي هذا العجز الهائل. طبعاً في وقتها كان آل سعود الأكثر عطاء، لكن سبقهم كثيرون في خلق هذه الحال غير الصحية في سوق الإعلام. لا يجب أن ننسى «فضل» القذافي وصدام حسين في الزمن الجميل. اليوم يبدو تميم بن حمد الأكرم في السوق المحلية بعد إنكفاء أموال آل سعود، وطموح جمال دانيال السياسي، وصرعة رجال الأعمال العراقيين الذين ظهروا بعد الغزو وإقتنوا قنوات التلفزة كرمز ثراء ونفوذ. طبعاً هناك فُتات ايرانيّ واماراتيّ وكويتي، لكنّه لا يُقارن بحجم التمويل المذكور أعلاه. غير أنّ موجة الطرد التي شهدتها قناة «الجزيرة» تُنبئ بأنه سيتبعها «تشحيل» في المنابر الإعلامية الجديدة التي إستحدثها عزمي بشارة، عرّاب سياسة قطر الإعلامية في السنوات القليلة الماضية.
نهضة الصحافة القادمة

منابر الصحافة تتغير ومصادر الرزق والإرتزاق تتدهور، لكن سوق الأخبار باقية. يشكّل إنهيار نموذج المموّل الثري، الذي لا يأبه لهدر أمواله في البروباغاندا، فرصة لإعادة الإعتبار للصحافة الحقّة. أوّل من سيغتنم الفرصة، بالطبع، هو المموّل الثري «الخفي»، بواجهة «غير حكومية»، والذي يقيّم نتائج التمويل فصلياً ويعيد ترشيده سنوياً لتحقيق أهدافه. فهناك مؤسسات دولية شغلها الشاغل الحريات والديمقراطية مستعدّة لتمويل الصحافيين المستقلين النظيفين غير المسيّسين، والذين سيرتاحون للعمل في منابر لا يموّلها أمير أو طرف سياسي محلي. إعادة الإحياء المنقّحة للمنظومة القديمة قد ترضي الكثير من الزملاء، إذ تعيدهم إلى تقوقعهم في هوامش الحرية من دون العبء الأخلاقي الذي طالما عذّب ضميرهم حين عملوا في مؤسسات «مسيّسة». طبعاً، يتطلّب ذلك تجاهل أن الكثير من تلك المؤسسات المتحمسة للتمويل مرتبطة بأفراد وحكومات أوسخ من طغاة العرب.
ولكن الفرصة الحقيقية في عودة السوق إلى حجمها الحقيقي هو أنها تفتح المجال، لأول مرّة، لتنافس عادل. فحواجز الدخول إلى السوق تنخفض عندما ينكفئ الإنفاق غير المضبوط. طبعاً ستكون السوق أصغر ولن تتّسع لجميع العاملين فيها اليوم، ولا لطلاب الصحافة والإعلام الذين سيدخلون السوق في المستقبل القريب. لكنها ستكون أكثر صحية. سيضطر من تبقّى إلى بذل الجهد الذي يتطلبه إستقطاب آلاف القرّاء. سيُفتح المجال لتعددية في الآراء بدل المديح الببغائي لتأتأة «طال عمره».
القرّاء موجودون، ولن تنتهي «أزمة الصحافة» إلا بالعودة إليهم وإلى همومهم وقضاياهم. أمّا إن كان حقّاً لا يوجد قرّاء، فـ«لشو عيشتنا».

  • شارك الخبر