hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - الفضل شلق

بؤس الإنتلجنسيا العربية: العزوف السياسي والجمود الأخلاقي

الجمعة ١٥ أيلول ٢٠١٦ - 07:06

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

السفير

تتعلق السياسة بالفضاء العام. تتعدد الآراء، يدور النقاش والحوار، والتواصل وتبادل الآراء، الحاجة إلى تسوية أو تسويات، اختيار الممكن من بينها، الممكن واحد من خيارات أخرى متاحة، كل منها يحتاج إلى تسوية، كل تسوية تعني أن كل طرف في العلاقة يتخلى عن جزء مما يعتبره حقاً أو حقيقة في سبيل الوصول إلى نقطة مشتركة، دون ذلك ينقسم المجتمع ويصير أخذ القرار مستحيلاً إلا مع القمع والاستبداد. السياسة نقيض الاستبداد، بديل الحرب الأهلية، هي إحلال السلم الأهلي مكان العنف المسلح. لكن في كل تعددية، الخيار يعبر عن حرية ما.
تتعلق الأخلاق بالمعايير والقيم. هذه مقاييس لما يجب أن يكون. أنت يجب أن تقوم بما تقوم به لأنك يجب أن تقوم به. إذا لم يكن لديك ما يكفي من النوازع والدوافع للقيام بما يجب القيام به، فهناك القانون الذي يفرض عليك التقيد بما يجب. القانون سلطة قسرية. تتقلص الحرية في مواجهة القانون. أنت لا تختار القانون. في السياسة احتمالات متعددة لخيار واحد يتخذ عند القرار. في الأخلاق احتمال واحد لقرار واحد. يرتاح العقل والضمير عندما تكون الاحتمالات ضئيلة. هناك عذاب كبير مع تعدد الاحتمالات وضرورة الخيار بينها. يكتفي الكثير من الناس بالأخلاق ويعزفون عن السياسة. يصبح العزوف ضرورة مع الاستبداد. الاستبداد يلغي السياسة لكنه لا يلغي الأخلاق، يؤكد عليها، وإن لغايات مشبوهة. في هذا التأكيد مصادرة للأخلاق يجعلها خاضعة لاعتبارات خارجية وقسرية.
الدولة مجال السياسة. دون السياسة تتحول الدولة إلى سلطة، مجرد سلطة تحكم بالقمع والإكراه. الدولة الحديثة هي الإطار الناظم للمجتمع. عندما يكون المجتمع سياسياً، يصير هو الدولة، تصير الدولة تعبيراً عن المجتمع في قراراتها، تتوحد السلطة والدولة، تخضع السلطة لاعتبارات الدولة، لا تعود الدولة سلطة خارجية. تصير هي جزء من الفرد، من الضمير الفردي والجماعي. يتوسع مجال الحرية، يصير تطبيق القانون تلقائياً، تخرج الأخلاق من عباءة السلطة، يعود للفرد ضميره. لا بد من سلطة ما، لكن شرط السلطة أن تخضع لاعتبارات الدولة. لا شرط على الدولة، الدولة شرط لما عداها. القول بأن تكون عادلة أو قوية، الخ... لا ضرورة له، إذ إنها صارت هي المجتمع السياسي، صارت هي التعبير عن الذات، عن الضمير، عن الوجود الإنساني.
مصادرة السياسة هي مصادرة الأخلاق في آن معاً. يصعب، بل يستحيل الركون إلى الأخلاق في غياب السياسة. تصير الأخلاق وهماً مع الاستبداد. أما العزوف السياسي فهو عزوف أخلاقي في آن معاً. يتقوقع الإنسان داخل ذاته، يعزي النفس بالسلوك المستقيم. راحة نفسية أشبه بالصوفية. يموت الدافع الإنساني، يتوقف الفرد عن السعي الحقيقي من أجل الارتقاء والتقدم.
الفرق بين الأخلاق والسياسة هو بين ما يجب أن يكون وبين ما يمكن أن يكون، هو بين الوجوب والإمكان. مع الاستبداد يتحول الوجوب والإمكان إلى استحالة، استحالة أن يكون الإنسان كما ذاته، استحالة أن يتصرف الإنسان حسب ضميره. العزوف عن السياسة، عن الممكن، هو أيضاً عزوف عن السعي من أجل الوجوب الأخلاقي، هو خضوع لوجوب آخر تفرضه سلطة خارجية، من خارج الذات، هو استتباع الإنسان لما هو خارج ذاته، هو جعل الإنسان أداة لغيره.
تبرر النخب العربية عزوفها السياسي بالاحتماء وراء الأخلاق، لأنها لا تدرك معنى الدولة، لا تدرك من السياسة إلا معنى الصراع على السلطة. هي «في نهاية التحليل» تخضع للسلطة الجاثمة فوق صدور الناس، السلطة التي تخنق الوعي وتمنع السعي وتشل مجتمعنا. العزوف السياسي أدى إلى جمود أخلاقي وإلى شلل فكري. ما زلنا خلال القرن الأخير نردد الأفكار ذاتها في حين أنها أثبتت فشلها. توقفنا عن السؤال والتساؤل حول المصطلحات والمفاهيم الشائعة. ليس الاختلاف بين السياسة والأخلاق اختلافاً بين النظرية والممارسة، بل هو تعبير عن فقر أخلاقي وروحي. ننقاد لما هو شائع. ليس لدينا العزم للخروج على المألوف.
مثل واحد يكفي: عندما خرج أحد المفكرين الأميركيين بمقولة صراع الحضارات، أقمنا الدنيا ولم نقعدها. لكن، مَن غيرنا في العالم الآن يشن صراع الحضارات والثقافات؟ مَن غيرنا في العالم يدعو إلى خصوصية دينية أو ثقافية في العلوم المادية والعلوم الإنسانية وحقوق الإنسان؟ أليس في ذلك استسلام للماضي ولما يسمى التراث والثقافة الموروثة؟ وهل يكون لوجودنا معنى دون أن نتجاوز ما نحن عليه وما كنا عليه؟ وهل يمكن التجاوز دون الوعي والسعي؟
أولوية الممكن (السياسة) على الواجب (الأخلاق) هي ما يمنحنا الفرصة للخروج من المأزق. هي أولوية السعي على الاستسلام، أولوية التجاوز لأنفسنا. عزوف سياسي يقود إلى جمود، إلى أخلاقي، كل منهما يلغي إمكانية التجاوز.

  • شارك الخبر