hit counter script

مقالات مختارة - جوي سليم

مسكونٌ بسوريا

الإثنين ١٥ أيلول ٢٠١٦ - 06:45

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الاخبار

كان يصعب منذ البداية، تصديق أن من يحاول قتل سوريا، بكل ما تمثله، منذ خمس سنوات، سيدع شخصاً مثل ناهض حتر على قيد الحياة. كيف ستُخطئ يدُ المجرم هذا «المزعج» الذي كان يرى في سوريا حياةً، قبل أي موقف وطني وسياسي؟
نعم لقد كان ناهض مزعجاً، وللحلفاء قبل الخصوم والأعداء.

كان «ذوبانه» في القضايا المؤمن بها، يدعو مَن حوله أحياناً إلى السأم أو الاستهزاء الإيديولوجي، أحياناً مما كان يراه البعض خليطاً هجيناً من العقائد والنظريات، بين القومية الاجتماعية والماركسية، تحت عنوان طرح المشرقية الإشكالي، وأحياناً أخرى بسبب الاختلاف السياسي معه على خلفية موقفه من سوريا والمقاومة، أو بسبب التمايز داخل «محور المقاومة».
ولكن ما الذي يهم في كل هذا الآن؟
لقد قُتل ناهض حتر على يد مجرمٍ سلفي وعلى مرأى رجال النظام الأردني ومسمعهم في وضح النهار وفي قلب عمّان. سيق إلى الاغتيال رمياً بالرصاص بتواطؤ محتمل، تحت ذريعة «تبيع» في السوق السياسي والثقافي في أيامنا هذه، وهي وضعه في مواجهة التطرّف الإسلامي. هذا الوحش الذي يستنفر العالم بأسره لقتاله تارةً، وتُفتح في كل مكان نقاشات حضارية وفكرية على مدار الساعة لاقتلاعه أو احتوائه.
أعاد ناهض نشر رسم كاريكاتوري يصوّر مخيلة تكفيري للجنّة، فغضب الإسلاميون، والمتدينون البسطاء، وثاروا ضده في حملةٍ أدت إلى اعتقاله ثم إلى إخلاء سبيله، وفي الأخير إلى قتله.
إذاً، الرواية متّسقة: مثقف، كاتب، صحافي، يتحدّى سلطة الدين والتحريم، فيهدر دمه ويلقى حتفه على يد تكفيري، تماماً مثل مفكرين عرب كثر. اليوم، ستنشط الأقلام في استعادة نقاشات نقد الفكر الديني، وتحدّي منظومة الإسلام التكفيري، وسيتحدث الجميع عن رجعية مجتمعاتنا و«عقلها» الرافض للاختلاف والمزكّي للكراهية الدموية. وفي هذا كله جوانب عدة من الصواب، وخصوصاً أن الرجل على خلافٍ قديم مع الرجعية الاسلامية في الأردن وقد تعرض لمحاولة اغتيال سابقة وكانت حياته دوماً مهددة.


استشهد ناهض لأنه وقف
مع جنود الجيش العربي
السوري والمقاومين

ولكن لا، ناهض حتر ليس «شهيد الكلمة» ولا شهيد «الرأي» ولا «حرية التعبير». ولعلّ آخر ما يجب إثارته في قضية مقتله، هو نقاش الحريات و«حق الاختلاف». تبدو هذه العناوين كلها آتية لتمييع الموضوع، وحرفه عن مساره الأصلي. ناهض لم يكن رساماً في مجلة «شارلي إيبدو»، ولا مفكراً يشاغب المؤسسة الدينية وسلطتها وحسب.
ناهض هو أحد شهداء الصراع، الصراع على سوريا وفيها. من يتغاضَ عن هذه الحقيقة، يرد التعمية على شيء ما. راكم الرجل طيلة فترة نشاطه أعداءً كثرا، ليس «الإخوان المسلمون» والإسلاميون عموماً إلا بعضاً منهم. إلا أنه في الحقيقة، كان كل عدو لسوريا ولدولتها وجيشها يعاديه ويفرح لإقصائه.
كل من عرف ناهض، لمس حبّه الكبير لسوريا. كان يرى في هذه الأرض مهداً للحياة وتاريخاً «يتفوّق على تاريخ كل حضارة أخرى». كان يحكي عن دمشق كأنه يحكي عن حبيبة، ومؤمناً بأن كل الحضارات القديمة بعظمتها، لا تمثّل سوى لحظة واحدة من عمر الحضارة السورية، بحسب ما كان يقول.
كثيرون كانوا يرون في قناعته، لا بل يقينه، مبالغة لا تخلو من الشطحات الشوفينية، ومع أنه كان يعدّ نفسه يسارياً في الأصل، إلا أن يساريين كثراً كانوا يعدّونه يمينياً، ويستندون في ذلك بصورة خاصة إلى مواقف سابقة له من الفلسطينيين في الأردن، وما يرون أنه «مهادنة» للنظام الأردني.
في الواقع، إن العداء الكبير لناهض من منطلق يساري، يرتبط أولاً بموقفه الحادّ المؤيد للدولة السورية وجيشها، وذلك عائد لأسباب تاريخية أهمها ترسبات الخلاف القديم بين مؤيدي نهج منظمة التحرير الفلسطينية ومؤيدي نهج الدولة السورية في الصراع مع إسرائيل. هذا من جهة. ومن جهة أخرى ذلك عائد إلى هيمنة الطابع الحداثوي والتنويري على مهمات اليسار العربي في الوقت الراهن، واستناد كل نضاله إلى الـ»Political correctness» في وجه كاتبٍ مستفزٍ كان يسمّي الأشياء بأسمائها بلا مواربة، ويجد نفسه، كيساري، في قلب معركةٍ ضد الهيمنة الاستعمارية والرجعية الدينية.
«أخجل لأنني لست شهيداً، وأخجل لأن بندقيتي من الكلمات في خندق دمشق، ولأن حبري يسيل لا دمي في صد الحملة البربرية على الشام».
لقد رحل ناهض قبل أن تنتهي الحرب، ومثلما أحبّ، سال دمه في وجه العقلية البربرية نفسها الضالعة في قتل سوريا منذ خمس سنوات. لقد دفع ثمن مواقفه القوّية، غير المساوِمة من الأزمة السورية، ومن الهجمة على هذه البلاد، بأدوات دينية رجعية تارةً، وأخرى علمانية وليبرالية تارةً أخرى. لقد استشهد ناهض لأن هناك من يحاول القضاء على روح سوريا، العلمانية المقاوِمة، ولأنه وقف مع جنود الجيش العربي السوري والمقاومين، يدافع عن هذه الروح، على الأقل في معركة الوعي.
فلترقد بسلام أيها الرفيق النبيل. ستكون في طليعة المشاركين يوم النصر.

  • شارك الخبر