hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

افدوكيا وفينيقيا وجبال النفايات

الثلاثاء ١٥ آب ٢٠١٦ - 00:28

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

راحت تتأمل ما دعته "بالديوك تتنافس على الكلام عبر الشاشات من على جبل النفايات او من حوله او من الساحات والشوارع او الغرف المقفلة الضاربة عليه". واعتبرت بأنّ "كل ديك على مزبلته صيّاح، والنفايات والازمات بدايتها من المنازل حيث انّ السيدات المصونات لإرضاء ازواجهن المحترمين يكثرن من طهي الاطعمة واستهلاك المواد الغذائية، بحيث انّ القوت يرمى في القمامة، وفي هذا استجرار للعنة..."
ثمّ اردفت: "هل تعرف قصة السلحفاة؟"
فأجبت بأن لا.
فقالت: "كانت السلحفاة امرأة جميلة ونضرة، الا انها كانت مبذرة لا تقيم للقوت قدرا، ولا تعير اهمية لمن ليس له خبز كي يأكل من اهلها وجيرانها. يحكى انها خرجت ذات يوم الى تنورها كي تعد خبزها، وبينما كانت تخبز، بكى رضيعها فأطعمته وقد قيل انها مسحت قفاه المتسخ بخروجه بعجينة، ورمتها. فحلت لعنة الله عليها وقد جعل منها امثولة، فقزمها ووضع المعجن على ظهرها وامرها ان تمشي. فتحولت الى سلحفاة كي تذكر الناس بعدم الاستخفاف بالقوت، وبعدم التفريط به وبالنعم النازلة من فوق على البشر. فلا يجوز ان يموت الناس من التخمة ويتم التفريط بالقوت بينما يجوع الفقراء والمعدمون. حصلت هذه القصة هذا من زمن غير قريب، ومازال بعض اهل القرى يتذكرونها".
تابعت: "النفايات المنزلية تتكون من اربعين الى ستين بالماية من اطعمة كسدت. الا فأبلغهم يا استاذ انّ لعنة النفايات والزعامات السيئة والامراض حلّت، فالناس نست المجاعة في الحرب العظمى. انّ لعنة التفريط بالأطعمة لن تنفك تلاحقهم وتهد مضاجعهم حتى لو عاشوا في القرن الواحد والعشرين. حل المشكلة هو في ان يغير الناس عقليتهم، فتتغيّر احوالهم، لم لا يعودون الى خطة ايلول من العام المنصرم ام انهم اسقطوها مع اوراق الخريف على مهب الشتاء كي يحملون الخاصرة الضعيفة في البلد من اهل برج حمود والناعمة نفاياتهم ويرسلون اشواقهم وياسمينهم عبر المتوسط الى العالم. مسكين يا متوسط اضحيت بحرا للجثث والقمامة. قل لأهل جبل اللبان انّ الاطعمة لا تكدس في مستوعبات القمامة. واسألهم ان لا يشكوا بعد اليوم تعاظم حجم اكلاف الفاتورة الغذائية التي تنتهي في اطنان مكدسة من النفايات العضوية في الشوارع او على الشواطئ بانتظار المعالجة. فالكرم في بلادنا تبذير. الكرم في بلادنا اشباع لعين وارضاء لمعدة ووجع لجيب".
استمعت بتمعن الى ما كانت تفضي به "افدوكيا" جارتنا، ورحت اتتبع التصريحات من على جبل النفايات ومن على المنابر الملاصقة للطاولات التي عقدت والمنعقدة في سبيله. استرجعت آلاف الساعات التي بددت وعشرات لا بل مئات الجلسات الوزارية وغير الوزارية التي ضاعت والجهود والامكانيات التي بددت كي يبقى المشهد كما هو، لا بل انّ المشهد تردى فارتفعت اكلاف ادارة الملف وتراجعت الخدمات ونوعية المعالجة وشحت الوسائل والامكانيات. والديوك مازالوا هم هم، والمزابل هي هي، والمواقف والادوار نفسها والشخصيات تتمايل فوق اكوام النفايات ومن خلفها وتحتها وترقص فوقها مطلقة المواقف والعبارات مع تبديلات بسيطة على السيناريو والديكور كي لا يمل المشاهد. وقد امتلأت المستشفيات بالمرضى.
محظوظة هي الجهات القليلة التي حاولت الامساك بكرة النار وبدأت تفكر بحل للمشكلة بعيدا عن الادارة العامة.
انّ ما تبدل بين الامس واليوم هو تنامي الطمع والرغبة بحصد اكبر قدر ممكن من الاموال وابتكار وسائل خلاقة لتوسيع الهوامش الربحية، فمعدلات الآمال الموضوعة لتحقيق ارباح خيالية من جبال النفايات تتزايد، فتعوض شح الاموال التي تراجعت بفعل تضاؤل المتساقطات الاقليمية والدولية على التربة المحلية العطشى للقرش.
نعم، انّ الفارق الوحيد ما بين الامس واليوم هو السعي الدؤوب لتمويل اكلاف السياسة المحلية الشعبوية الطابع من نفايات الشعب، فكل ما يأتي من النفايات اليها يعود. وصارت مهمة اي "استشاري" موثوق تصميم اثواب فضفاضة بهوامش ربحية كبرى تضمن استمرار من يقبعون على جبال النفايات منها، فتكشف اسعار مناقصة ما عور اسعار مناقصة اخرى، ويعاد التلزيم من دون ان تتبدل الاسماء حتى آخر قرش من قروش اللبناني الفقير.
لقد ارسى الكنعانيون قديما إمبراطورية تجارية لا تغيب الشمس عنها، إمبراطورية كان اساسها التبادل التجاري ما بين الشعوب من دون اي عائق. فابتكر الفينيقيون الانموذج الاول للتجارة الحرة في العالم ونشروا الحضارة مع بذور القمح في كل ارجاء المتوسط، فأثمرت غنى وحضارة، وها انّ احفادهم اليوم يرسلون عبره مع محبتهم نفاياتهم التي يتقاضون لمعالجتها اعلى الاسعار دون تحقيق الهدف. المطلوب اليوم في ذكرى "د. مارتن لوثر كينغ" ظهور "لوثر كنغ" لبناني يحلم ببلد من دون نفايات، ببلد مع كهرباء وماء في القرن الواحد والعشرين. المطلوب ذهنية جديدة في بلد الارز ترتكز على المساءلة، ومن فوائد هذه الازمة بانها قد بدأت تعيد تكوين ما يخشاه من يقبعون على جبل من اكوام النفايات.
 

  • شارك الخبر