hit counter script
شريط الأحداث

الحدث - دافيد عيسى

تركيا اتاتورك اصبحت من التاريخ ...

الإثنين ١٥ تموز ٢٠١٦ - 06:39

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

ما لفتني في الفترة الأخيرة ان اللبنانيين يتابعون باهتمام وشغف مجمل التطورات في المنطقة والعالم ويتفحصّون خلفياتها وآفاقها ويتابعونها بدقة، وهذا التحول في اتجاه الأحداث الإقليمية والعالمية يعكس امرين:
- الأول ان اللبنانيين اصبحوا مقتنعين اكثر من اي وقت مضى ان اغلبية السياسيين في لبنان مرتهنين للخارج ومغلوب على امرهم وهم لا يقدمون ولا يأخرون في السياسات الكبرى (انتخابات رئاسة الجمهورية – قانون الانتخابات الخ)، وانهم يمضغون كلامهم ويجترّون مواقفهم السخيفة، بحيث صار الشعب اللبناني أسير وضع ثقيل الوطأة نتيجة ذلك، ولم يعد لهم خيار سوى التعايش مع هذا الواقع الصعب وانتظار الترياق الآتي من الخارج.
- الأمر الثاني ان اللبنانيين بحكم تمرّسهم وتجاربهم وخبرتهم المكتسبة باتوا مدركين الصلة الوثيقة بين مستقبل الوضع في لبنان وبين التطورات والمتغيرات الجارية في المنطقة والعالم.
كل ما يجري في "الشرق الأوسط الكبير" وفي اوروبا واميركا بات يؤثر على المنطقة العربية وعلى امنها وقضاياها ومسارها ومصيرها ولبنان من ضمنها، فالعالم بفعل ثورة التكنولوجيا والإتصالات ووسائل التواصل اضحى "قرية" مترابطة الحلقات والأحداث وصارت الدول والشعوب سريعة التأثر والتفاعل بأي حدث كبير يطرأ وتعتبر نفسها معنية به بشكل او بآخر ولو بنسب متفاوتة.
هذا ما حدث وتكرّر في الأسابيع الأخيرة في ثلاث محطات:
- الإستفتاء البريطاني على الخروج من الإتحاد الأوروبي لأنه قرع جرس الإنذار المبكر الى مستقبل اوروبا التي تواجه خطر التفكّك السياسي والعودة الى ما قبل الإتحاد تحت ضغط المشاكل والضغوط المتأتية من الإرهاب واللاجئين.
- انطلاقة الإنتخابات الأميركية بعدما انحصرت المنافسة بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، وهذه الإنتخابات الرئاسية ادّت الى تجميد كل ملفات المنطقة بانتظار ما ستؤول اليه الانتخابات لتحديد توجهات السياسة الأميركية في المنطقة.
- هجمات نيس الإجرامية التي نفذها ارهابي في شاحنة ضد مواطنين ابرياء كانوا يحتفلون بالعيد الوطني الفرنسي، وها هي اوروبا التي زرعت تخاذلاً واهمالاً في المنطقة العربية تحصد اليوم ارهاباً وتطرفاً على ارضها وتصعد فيها مناخات التطرف و"الإسلاموفوبيا" وتواجه ما عرفته شعوب هذه المنطقة من معاناة وآلام ودماء ودموع.
اما الحدث الذي استأثر اكثر من غيره باهتمام اللبنانيين وتفاعلوا معه في السياسة وعلى الأرض فكان الحدث التركي بعد وقوع محاولة انقلاب فاشلة ادت الى هزّ عرش الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من دون ان يسقط، والى هزّ استقرار تركيا ومناعتها المكتسبة.
واما المتابعة اللبنانية اللصيقة للتطورات في تركيا، فإنها حصلت لأن تركيا تتمتع بموقع استراتيجي ولها مكانة وتأثير في كل المنطقة وهي واحدة من ثلاث دول اقليمية كبرى، ولأن الأحداث الداخلية الجارية فيها لها تأثير وانعكاس اكيدين على الوضع في سوريا نظراً لدور تركيا العسكري والسياسي في سوريا إن من خلال دعم فصائل المعارضة او من خلال الإنخراط في التنسيق مع روسيا واميركا وايران في شأن العملية السياسية.
ولا يخفى على احد طبيعة الترابط الوثيق بين الأزمة السورية والوضع في لبنان الذي يعيش حالاً من "الجمود" على كل المستويات السياسية الى حين اتضاح وجلاء الوضع في سوريا. يُضاف الى ذلك ان مستقبل تركيا يؤثر الى حد كبير على مستقبل المنطقة وخصوصاً على مستقبل "الإسلام السياسي" فيها وكل ما يتصل او يتفرّع عنه من ثقافة تطرّف وعنف وحالات ارهاب .
ما حدث في تركيا ليس عابراً ولا ظرفياً وانما ستكون له تأثيرات بعيدة المدى وسيؤدي الى تغييرات عميقة في بنية تركيا كدولة ومجتمع، وان "تركيا اتاتورك" اصبحت من التاريخ وعلى انقاضها ستُقام "تركيا اردوغان".
تركيا التي غلب عليها لعقود الطابع العلماني سيغلب عليها من الآن وصاعداً الطابع الإسلامي، والجيش الذي كان حامياً للجمهورية العلمانية ومؤتمناً على "إرث اتاتورك" المؤسس لتركيا الحديثة اُصيب في معنوياته وهيبته وتعرض للإهانة والذلّ، وجرى الزجّ بجنرالاته وكبار ضبّاطه إضافة الى آلاف القضاة والموظفين الكبار في السجون والمعتقلات.
ولأن الجيش التركي شهد تضعضعاً وارتباكاً وبلبلة فإن دوره الحامي والعسكري سيتأثر سلباً وسيُضعف معه دور تركيا الإقليمي خصوصاً وانها ستكون مضطرّة للإنصراف الى مشاكلها واوضاعها الداخلية والتركيز عليها ووضع الإهتمامات والملفات الإقليمية جانباً.
لم يعد مهماً البحث والتنقيب في اسباب حصول الإنقلاب العسكري الذي لم يتمّ الإعداد له بشكل جيد واعترته اخطاء وثغرات، ولم يعد مهمّاً البحث والتنقيب في اسباب فشل هذا الإنقلاب الذي اعطى اردوغان ذريعة قوية للإنقضاض على خصومه ومعارضيه والنيل منهم وتوجيه ضربة قاضية لهم وتنفيذ اوسع حملة اعتقالات وإقالات وعزل هي اقرب الى عملية اجتثاث واستئصال للمعارضة من جذورها وإلغاء لوجودها لمصلحة الحزب الواحد.
ما جرى في تركيا ليس قليلاً ولا يمكن التقليل من شأنه واهميته. فقد دخلت تركيا مرحلة جديدة واصبحت مصنفة على لائحة الدول غير المستقرة، ودخلت في نفق التطورات غير المحسوبة والمفاجآت المفتوحة، سيّما وان تركيبتها الإجتماعية والسياسية قائمة على انقسامات وتوازنات واوضاع دقيقة وصراعات متعددة الأشكال والأحجام من الصراع المزمن بين العلمانيين والإسلاميين، الى الصراع التاريخي بين الأتراك والأكراد، الى الحساسيات الحديثة والمفرطة بين "السنة والعلويين" وزادتها الحرب السورية تأججاً.
خرج اردوغان اقوى من هذا الإنقلاب الفاشل الذي اعطاه فرصة ذهبية كان يتحيّنها لتثبيت حكمه وسيطرته والإمساك بالدولة بكل مؤسساتها ولا سيّما الجيش والقضاء بيد من حديد، لكن تركيا الدولة خرجت اضعف ممّا كانت وصارت دولة مكشوفة في امنها السياسي والإقتصادي والإجتماعي، ومضروبة في مؤسساتها الإجتماعية والدستورية، وهي تعود الى الوراء في نظامها الديموقراطي وسلم القيم وحقوق الإنسان وستصبح بعيدة اكثر من اي وقت مضى عن الإتحاد الأوروبي ومشروع الإنضمام اليه.

دافيد عيسى – سياسي لبناني
 

  • شارك الخبر