hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - نصري الصايغ

«داعش» في كل مكان.. من المسؤول؟

الخميس ١٥ تموز ٢٠١٦ - 07:07

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

السفير

كل هذا الموت، كل هذا الفتك، كل هذا القتل، نستحقه. لم يعلن أحد مسؤوليته عن دفع العالم إلى هذا الجحيم. الكل يتهم المرتكب ويبرئ نفسه وتاريخه وسياسته ودينه وثقافته، ويستريح.
كل هذا الإرهاب، كل هذه العمليات الانتحارية المنتشرة، كل هذا الاختراق العدمي للحياة، نستحقه، أفراداً وجماعات ومنظمات وديانات وأنظمة ودولاً وشعوباً. لم يكتشف أحد بعد أنه متورط أو متواطئ أو متخاذل أو مشتبه أو متهرب من مسؤولية هذا الجنون العبقري في ممارسة الإفناء.
من يدَّعي البراءة مرتكب. ما حلَّ بالشعوب والدول والعالم، ليس لعنة سماوية، أو شؤماً قدريا. ما تتعرض له البشرية، هو من صنعها. هو من صنع الدول التي نأت بنفسها. هو من صنع الأنظمة، المستبدة والديموقراطية، التي تساهلت مع العنف، إنتاجاً وتبريراً. هو من صنع الشعوب التي شكلت بيئات حاضنة، سياسياً وثقافياً ودينياً، لحركات عنفية، بهدف الثأر من خصوم قريبين وأعداء بعيدين، وليس لإعلاء حق أو قضية إنسانية.
هذا العالم، بخيره وشره، هو من صنعنا. وهذا الإرهاب، بالرغم من رفضنا له، هو بسببنا. لقد كانت السياسات الدولية فاجرة عندما رفعت شأن التبرير وجعلت الوسيلة مستقلة عن الغاية. فرحت الولايات المتحدة الأميركية بوقوع الاتحاد السوفياتي في «الفخ الأفغاني». قالت: «هذه فيتنام سوفياتية». تصدَّت أميركا لغزوة أفغانستان «الماركسية»، بتنظيم ودعم «الجهاديين الإسلاميين». هؤلاء، قادمون من عالم آخر. عالم الفتوى والتعصب والتكفير. هُزم السوفيات على يد هؤلاء، وتركوا لمصيرهم المجهول. خافت الدول التي تطوَّعت لتصدير «الجهاديين»، من عودة «العرب الأفغان» إليها. «القاعدة» ولدت في لحظة التخلي الدولي عما بعد الحرب الأفغانية. غرقت الجزائر في «سنوات الرعب». حصدت مصر مجازر سياحية. سقط بُرجا التجارة العالمية في نيويورك. لم يسأل أحد أحداً عن المسؤول، سياسياً وعسكرياً وثقافياً ودينياً. تركت المعالجات للمخابرات والفرق الخاصة، لمواجهة الإرهاب بالأمن والعسكر فقط.
من يكتوي اليوم بالإرهاب، عليه أن يحاسب الرحم الذي ولدت منه هذه الشياطين.
ولا دولة متضررة اليوم من الإرهاب ساءلت نفسها عن حصتها في «مشروع الجهاد الدولي». بعض الأنظمة العربية كان يعيش حالة نشوة، عبر تسهيله للجهاديين الذهاب إلى القتال في الجبهات، بهدف التخلص من خطرهم الداخلي. لا هنا ولا هناك ولا في أي مكان طرح السؤال: من المسؤول، استفاقت الدول والشعوب على الكارثة المتنقلة، فذرفت دموعاً، وأقامت الحواجز ونشطت الاستخبارات، وفشلت. الخطر يتعاظم في العالم، برغم الخسائر الميدانية التي مني بها «داعش» في العراق والشام. إرهابه عابر للحدود والدول والأوطان. كل ما عداه يستحق القتل.
خطر عالمي غير مسبوق، يواجهه العالم بالعجز، فيما المواجهة تفترض مساءلة الأسباب لا معالجة النتائج. هذا العالم، حتى اللحظة، غير جدير وغير مؤهل لمحاربة الإرهاب المتموضع جغرافياً والمنتشر كوكبياً بلا عناوين ثابتة. العمليات الإرهابية الأخيرة خير دليل على متانة الإرهاب وقسوته، وعلى هشاشة الدول وضعفها. كل جماعة أو دولة تبحث عن خلاصها الخاص، ولا تجده.
من المسؤول؟ ألسنا جميعاً في موقع الاتهام؟ ألسنا جميعاً نتهرب من السؤال: كيف حصل كل هذا؟ تباً لمنطق المؤامرة. كل ما حصل كان متوقعاً: انفجار المشرق العربي كان حتمياً. تمكّن الحركات الجهادية كان ملحوظاً. تعاظم التكفير كان سائداً وملموساً. تكريس الانقسام الفتنوي السني الشيعي كان على قدم وساق. تفاحة الأنظمة المتخلفة معروفة. استنادها إلى السند الديني كان واضحاً. الاجتياحات المذهبية لم تكن مستورة. الأنظمة الاستبدادية كانت آيلة إلى السقوط، ومن بعدها الطوفان... كل ذلك كان معروفاً ومتوقعاً، ومع ذلك، فقد اجتمعت المحاور الإقليمية والدولية، وانقسمت الشعوب في الداخل والخارج، وفق ترسيمة: «نحن مع من هو معنا، وضد من هو ضدنا»، بكل الركاكة التي تفح من هذا الشعار...
لقد «جنت على نفسها براقش». لا ضرورة لتعداد عمليات التوحش التي ذهب ضحيتها أبرياء، كل خطإهم، أنهم وجدوا في المكان الخطأ، في الرصيف المقابل للحياة، حيث الموت يتصيَّد العالم.
كي لا نبقى في التعميم، نشير إلى النموذج اللبناني الراهن المحتذى عالمياً، من حيث تبنيه خيار الأمن فقط في مواجهة الإرهاب. منطق أهل الحل والربط فيه، أن البلد بألف خير، لولا ألف علة علنية أو مكتومة. يكفيه أنه ليس الأسوأ، ليقتنع ويقنع أنه الأفضل في إقليمه. الأمن ممسوك ومضمون (!) وما يعانيه من «داعش» و «النصرة» أقل من التخوُّف. «حظوظه» من العنف دون منسوب المنطقة. لا حرب فيه ولا سلام. هو معجزة سياسية بتفوُّق: يتعايش مع الفراغ والتهديد الدائم بجدارة الإقامة على حافة الهاوية ولا يسقط فيها. يتعايش مع التناقض في المواقف إزاء «داعش» و «النصرة» والنظام في سوريا. التكفير المذهبي متبادل سياسياً وإقليمياً. لا يستطيع أن يمضي في قتال التكفيريين، بحجة البيئة المتحسسة. العراق نموذج آخر.
لا تقتصر المسؤولية على من تغافل أو تمادى أو دعم الحركات الدينية التكفيرية أو ما يشبهها بالفتاوى والبيانات والمرجعيات. النظام العالمي الراهن وصل إلى حد غير مسبوق من العجز. بات العالم لا يطاق. به مس من جنون العنف. هذا النظام، يداوي الحروب «بالقبعات الزرق» بعد حصولها. «النيوليبرالية» الزاحفة والجارفة تحفر الهوة السحيقة بين القلة القليلة المستأثرة بالمال والسلطة، وبين الأكثرية الكثيرة المسحوقة، وما يولِّده التمييز والتهميش من عنف. الأسواق الفالتة بسلعها دفعت الفئات المنتجة والمحرومة من «نعمة السوق» إلى البحث بالعنف، عن مستقبل لها، بعيداً عن هذه الأرض، شيء من وهم الجنة يداوي الكثيرين من يأسهم. الأنظمة العسكرية الاستبدادية، ولاَّدة عنف مزدوج: عنف منها وعنف ضدها. المشرق العربي نموذج لتداخل الاستبدادَين: السياسي والديني... فلسطين، أيها العالم، قادرة على تفجير المنطقة مراراً، بسبب الظلم المتمادي منذ قرن. لا يمكن توقع سلام مع هذا الظلم.
أليس من نهاية لهذا النفق؟
العالم يؤجل استحقاق محاربة الإرهاب. ما قام به حتى الآن أظهر عجزه وفشله. البداية تنطلق من التصدي للأسباب التي تدفع أناساً مثلنا، ليصبحوا قتلة. لا يولد الإنسان قاتلاً. تصيِّره الوقائع كذلك. فلنبدأ من الوقائع بلا تبرير ولا ذرائع.

  • شارك الخبر