hit counter script

مقالات مختارة - وسام سعادة

«الكيان الموازي» في لبنان وفي تركيا

الأربعاء ١٥ تموز ٢٠١٦ - 06:20

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

المستقبل

التحدي في هذه المنطقة من العالم أن تتوازن. أن تتوازن وسط كل ما يزحل من حولك، أو ينقلب على نفسه، أو عليك، أو ينخسف، أو «يتزوبع في فنجان».

شرط التوازن ان لا يأسر الموقف التحليل. وأن لا يكابر أي كان على الموقع الذي هو فيه، والحدود والعوائق التي يفرضها «واقع الموقع»، الذي هو في نفس الوقت موقع متحرّك، ببطء حيناً، وبسرعة فجائية حيناً آخر.

الآن الحدث الشرق اوسطي بامتياز، والحدث الكوكبي بامتياز، هو الحدث التركي. تتعاقب الأحداث والمشهديات في تركيا وحولها، ويفرض تحدي التوازن نفسه أكثر فأكثر، كمعيار للنظر والعمل في آن.

فالتوازن يعني قبل كل شيء أن لا تعتم عليك شجرة بعينها رؤية كامل الغابة. والغابة مشكلة من عناصر متعدّدة لا تختزل في واحدة دون الأخرى.

ويعني التوازن أن لا تفقد نفسك. أن لا تضيع من كثرة التحديق فوقك وتحتك، يمنة ويسرى، أن لا تضيع في الغابة.

والتوازن يعني تحديد من أين نرى المشهد. نرى المشهد التركي من لبنان. البلد المعطلة فيه الديموقراطية البرلمانية بشكل تام، منذ الشغور الرئاسي، وتمديد المجلس لنفسه، وتطيير جلسات انتخاب الرئيس، وعدم اباحة الدستور للمجلس التشريع قبل حصول هذا الانتخاب. بل هي معطلة قبل كل شيء بفعل انحسار ما كان يقوم مقام العقد الاجتماعي، وتتكثف كل المشكلات في واحدة أساسية: مشكلة عدم الاتفاق على قانون انتخاب له قدر من التماسك والتوازن، فلا يبدّل ترقيعاً واعتباطاً عند كل استحقاق ولأجل حسم نتيجة الانتخابات قبل حصولها. اكثر من ذلك: في السنوات الاخيرة لم يعد متاحا تمرير قانون انتخابي، اعتباطي او غير اعتباطي. الاقفال شامل، والاستقرار بلا ضامن هو استقرار بمديونية سياسية وأمنية عالية للأيام القادمة.

طورت تركيا، في المقابل، احتكاماً منتظماً الى حد كبير، لصناديق الاقتراع خصوصاً منذ مطلع الألفية. ولم يعد حزبها الحاكم الآتي بالانتخاب، يحظر بقرار قضائي أمني أو يطاح باللعبة الانتخابية بتدبير انقلابي كما في السابق.

بالتوازي، لم تتطور الامور الى حيث ترسيخ قاعدتي فصل السلطات والتداول على السلطة بالشكل اللازم. شبح العسكريتاريا، الشعبويات المختلفة، الغلواء القومية، تعثر اي خطوة باتجاه حل المشكلة الكردية، المركزية الشديدة، الحرب الطاحنة بين مراكز القوى في جهاز الدولة، محاصرة الفضاءات العمومية، أزمة الحريات، الانكماش الاقتصادي من بعد ازدهار سريع وواعد، كل هذا لم يساعد.

انعدام الاستقرار الاقليمي بنحو متصاعد منذ احتلال العروق، وايصاد اوروبا باب اتحادها، والنظريات الغربية المتسرعة حول الاسلام السياسي التركي، مرة بامتداحه فوق اللزوم، واعتباره متمم شروط الحداثة السياسية، ومرة بشيطنته بشكل اسلاموفوبي أرعن، كل هذا لم يساعد.

كان باستطاعة تركيا ان تتطور باتجاه تداول على السلطة بين حزب محافظ اسلامي النزعة، وبين حزب اشتراكي ديموقراطي، وان تخفف من غلواء وغلاظة علمانيتها دون التخلي عن أركانها الأساسية، المتصلة بسيادة الأمة ومرجعية القانون الشاملة، بل ان تتوسع في هذه العلمانية من ناحية تكريس التعددية الدينية والاعتقادية بين الناس، وتجذير المساواة بين الجنسين، وتوسيع مساحة حرية الرأي والتعبير والبحث.

الا ان تركيا لم تتقدم في هذا الاتجاه بما فيه الكفاية، وحوصرت منذ الانتخابات النيابية في العام الماضي بمشكلة «كربجة سياسية»، لم تكن الانتخابات المبكرة التالية لها بمعالجة كافية، وكانت المحاولة الانقلابية معالجة كارثية بامتياز، وكارثية على الجميع، وعلى كامل رقعة الشرق الأوسط.

الأزمة التركية هي أزمة أشكال عديدة من انعدام التوازن، اوصلتنا الى المشهد الحالي الذي يمثل اعلى لحظة انعدام توازن في تاريخ تركيا الحديثة منذ انقلاب العام ثمانين، ان لم يكن منذ اعدام عدنان مندريس، ان لم يكن منذ قيام الجمهورية.

لكن تركيا لها مصادر كثيرة لتقديم تجربة حيوية من استعادة التوازن، مجتمعياً ومؤسسياً، مع كون التحديات غير قليلة: كيفية اعادة تشكيل جيش لا تتفلت منه نزعات انقلابية، وكيفية قيام نظام سياسي ديموقراطي وفاعل في نفس الوقت، تتأمن فيه عملية التداول على السلطة والفصل بين السلطات، وكيفية المصالحة في العمق بين المكتسبات الجمهورية الكمالية (الأتاتوركية)، وبين ماضي تركيا، وروحها، وأمزجة شعبها، وانتسابها الى دائرة حضارية أوسع من الدولة الأمة، من دون المس بمرجعية الدولة الأمة، التي تبقى تركيا ريادية، بفضل أتاتورك أساساً بتوطيدها في هذا الشرق.

وفي تركيا يحكى كثيراً عن «الكيان الموازي»، واللبنانيون يتعايشون مع كيان موازٍ مختلف الى حد كبير: «حزب الله». لا يمكن أن تكون المقاربة مشتركة، كذلك العلاج. الا ان ما هو مشترك بين المشكلتين أيضاً قائم: عندما يقوم في جهاز الدولة أو يهيمن عليه كيان هو في داخله وهو نقيض له في نفس الوقت، فهذه مشكلة عميقة جداً وخطيرة جداً. «الكيان الموازي« مشكلة كيانية عامة، سواء في لبنان أو في تركيا.
 

  • شارك الخبر