مرّة جديدة يدخل اللبنانيون نفق "الفوبيا" من المولات والتجمّعات التجارية والمرافق العامة والكنائس والمساجد وحتى الطرقات العامة وصولا الى البلدات الحدودية...
بيان قيادة الجيش- مديرية التوجيه بشأن إحباط عمليتين إرهابتين "على درجة كبيرة من الخطورة" وتوقيف خمسة إرهابيين على رأسهم المخطّط، أدخل الطمأنينة الى النفوس بأن العين الامنية ساهرة ومستنفرة، لكن "التعميم" وعدم ذكر المواقع المستهدفة ساهم بزيادة منسوب التساؤلات والتحليلات والبلبلة.
يبدو مفهوما جدا عدم ذكر البيان للاماكن التي نجت من الكارثة بغية عدم تمدّد رقعة زيت المخاوف، لكن أقلّه ثمّة من ينظر الى الكأس الملآن من الكوب: لبنان يكاد يتربّع على عرش دول مكافحة الارهاب المنخرطة في العمليات الاستباقية بوجه التكفيريين، وهو الاكثر نشاطا في ملاحقة وتفكيك الخلايا النائمة والمستيقظة واعتقال الشبكات الناشطة على خط جرّ لبنان الى المجهول.
وسط المناخات الضاغطة المرّوجة لسنياريوهات أسوأ مما شهدته بلدة القاع يوم الاثنين الماضي، ورصد الصدى الفعلي لهذه الهواجس في البيان الصادر عن اجتماع مجلس الامن المركزي في السرايا، سيكون تحوّل كازينو لبنان الى ما يشبه ثكنة عسكرية مجرّد إجراء روتيني، وزيادة عناصر الحماية أمام المولات وأماكن العبادة والوزارات والمؤسّسات العامة من ضمن المهام البديهية... القلق الامني الفعلي يكمن في تحوّل مشهد القاع الى مسلسل لا ينتهي من التفجيرات التي قد تضرب في كل الامكنة وفي اي وقت ما يمهّد الطريق عمليا الى سلوك درب العرقنة والاستنزاف الذي لا أفق له.
ما كانت تتخوّف منه القوى الامنية والجيش قبل بداية شهر رمضان حصل فعلا، لكن فعليا أدقّ التقارير الامنية وأكثرها حرفية وموضوعية لم يكن ليتوقّع ما حصل في القاع بتفاصيله غير المسبوقة لناحية كمية الانتحاريين الذين عمد بعضهم الى "الانتحار" بسبب سرعة تطويقهم على الارجح، مع العلم أنه ومنذ اشتداد وزر الازمة السورية كانت احتمالات الاختراقات الامنية من جانب التنظيمات التكفيرية والارهابية على الحدود الشمالية والشرقية أمرا مطروحا بشكل دائم على الطاولة الامنية، لكن الاسلوب وأعداد الانتحاريين وخريطة التفجيرات لم تكن في الحسبان ما قاد مسوؤلا امنيا رفيعا الى التوجّس من ان نكون أمام أولى مراحل سقوط مظلة الاستقرار عن الساحة اللبنانية.
لا شك ان الاشاعات تدخل دوما على خط تأجيج المخاوف، وهذه ليست المرة الاولى. وما يمكن ان يكون مجرد "داتا" وتقارير تعمل الاجهزة الامنية استنادا اليها لتفادي وقوع السئ والأسوأ، يصبح مع تكاثر حفلات الثرثرة والترويج للسيناريوهات السوداوية عبئا على هذه الاجهزة التي بدورها تسعى للامساك بخط رفيع يجمع بين ضرورة تحذير المواطنين من مخاطر أمنية محتملة لكن من دون ان تكون شريكة في مشروع ترويعهم وتخويفهم وصولا الى هزّ صورة الاستقرار السياسي بحدّه الادنى. وبالتأكيد ان احد مضار السوشيل ميديا الدخول كطرف مشارك ومحرّض أحيانا على تكبير حجر المخاوف وزيادة الاعباء على الاجهزة الامنية.
اليوم عادت نغمة الخوف من المولات مجددا رغم التطمينات، ووجدت الشركات الامنية الخاصة أرضا خصبة للمزيد من فرص العمل. واقتراب موعد احياء عيد الفطر الاسبوع المقبل يزيد من هواجس الاختراقات الامنية والاهداف كلها محتملة من الحدود الى الداخل: مولات وتجمّعات تجارية ومقار حزبية ومناطق شعبية (بكافة تلاوينها الطائفية) ومجمّعات سياحية صيفية وفنادق من دون إسقاط أخطار الفانات المتنقلة بين المناطق...
"قصة ريتا" وصديقتها "يللي بتعرف كيف بتنقيهون" صارت على كل شفّة ولسان. ورغم المضمون الهزلي للرسالة التي اجتاحت الواتساب، اصرّ البعض على اعتبارها بمثابة إنذار مسبق عن "شئ كبير" سيحصل! وقبلها تنقّلت عدة رسائل تحذيرية بين المواطنين وأخرى على شكل بيانات صادرة عن أجهزة أمنية، جميعها ومن دون استثاء اثبتت أنها غير صحيحة، لكن القلق لم يفارق اللبنانيين.
مع ذلك ثمّة أمر يجدر التوقف عنده. اللبنانيون "يقلقون" أكثر من أمين عام الامم المتحدة بان كي مون لكن من دون راتب خيالي، ويحلّلون حرفيا كل ما يصدر عن الاجهزة الامنية، ويطلقون خطابات لا تنتهي عن ضرورة الحذر والتيقّظ، ويوجّهون نصائح جدية وأحيانا كثيرة الى أمنيين بتغيير خطط تنقلاتهم... ومع ذلك، اللبنانيون لا يغيّرون ما يخطّطون له في نهاية الويك أند، ويستبدلون مولا بمول آخر، ولا يعوّفون سهرة "راكبة"، ولا يمارسون رقابة ذاتية على رغباتهم بالترفيه عن النفس وقصد الاماكن المزدحمة في العاصمة، ولا يسمحون حتى للتحذيرات الجدّية ان تعدّل في برامجهم المقرّرة سلفا... الدليل: راقبوا جماعة "نحب الحياة" هذا الويك اند!