hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - بول شاوول

"الذئب المُستوحد" ليس مُستوحداً!

الأحد ١٥ حزيران ٢٠١٦ - 08:54

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

(المستقبل)

ما إن وُصف محمد مراح بعد عمليته الإرهابية في فرنسا «بالذئب المُستوحد» حتى انتشر هذا التعبير وصار كليشيه يعلَق على كل من يرتكب جريمة تبدو انها «طالعة» من عزلته، أو أزماته النفسية، أو متخيلاته، أو اختلاله. بات الكليشيه «مصطلحاً»... وما إن ارتكب متين مجزرته في أورلندو (في كولورادو) مؤخراً، وملأت صوره وأوضاعه الموحية بالنرجسية حتى أُلصق به الكليشيه الجاهز «الذئب المُستوحد» هذا التعبير مترجم عن الانكليزية (الأميركية) والمأخوذ من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الهوليوودية التي لقيت نجاحاً، ليس فقط من أعمال الراهن بل من أكثر من أربعة عقود... ونتذكر الفيلم الذي أحدث ضجة مدوية في أميركا (جامع الفراشات) أو القاتل المتسلسل الذي يعاني أزمات داخلية، وتهويمات وتصورات لوناتيكية. عندها كان هذا المجرم خارج هذه التسمية لكنها تنطبق عليه. فـ»الذئب المُستوحد» بعد جريمتي مراح ومتين صار عنواناً سهلاً للكتاب والصحافيين. إنها ارتجاجات الداخل والذات المنفصمة والشخصية الثنائية هي التي تدفع مثل هذه الشخصيات إلى «الفعل»...

الفعل الإلغائي، أو القاتل، أو السادي، أو حتى المازوشي، أو «المطهر»... كما رأينا عشرات الأعمال الأميركية. فتعبير «الذئب المُستوحد» مترجم من الانكليزية «Lone Wolf« كما قال المفكر الفرنسي جيل كيبل وقبلها كان هناك تعبير آخر ساد طويلاً «ساعة الذئب».. وهو الذي وبفعل تحولات في الجسد والعقل والشكل يستذئب الإنسان. يتحول فجأة ذئباً عندما يهل «البدر» أو تطلع العاصفة.. أو تومئ إشارات غامضة له. لكن بين التعبيرين تشابهاً وإن اختلفت الحالات. فالذئب المُستوحد هو قاتل متسلسل... عنيف، لاإنساني، مجنون، محكوم بغرائز وتوترات جوانية تعود أحياناً كثيرة إما إلى طفولته أو إلى أسباب اجتماعية، أو «دينية» أو مجهولة....

إذاً انتشر هذا التعبير وانغرز في لاوعي الكتاب والصحافيين والعامة. لكن ما الفارق بين «ذئب مُستوحد» (يعوض عن ازماته بالقتل أو بالتعذيب أو التمثيل بالجثث) وبين شخص ارتكب مجزرة كمثل مراح ومتين... فقد استخلصت عناصر وأدلة أولية تشير إلى لاتوازن نفسي وكراهية عند الأخير للمثليين... لكن كل ذلك يبطل (كما يشير جيل كيبل في نويل أوبسراتور)، «عندما يلتقي ثقافياً ودينياً وثقافياً عالم «داعش». تطلع الهذيانات الدموية من الذئب المستوحد من ذاته، من عالمه المغلق، من عزلاته لكن عندما «ينتمي» إلى مرجعية معينة، منظمة، فهذا يعني انتماء إلى الخارج. إلى العمومي... إلى الآخر أي إلى نوع من التزام مرجعيات من خارج الذاتية... وها هو متين (كمراح قبله) يعلن قبيل تنفيذ عمليته الارهابية، انتماءه إلى داعش... من خلال مكالمة تلفونية أو رسالة خلوية هذا الارتباط: «ستكون هناك اعمال تفجيرية أخرى»؛ في الدقيقة الأخيرة خرج متين من جلد «الذئب المُستوحد» إلى «المستذئب» الداعشي: تبدلت الهوية تماماً. وهنا تسقط التحاليل والاستنتاجات التي رأت فيه شاباً مشحوناً بهلوسات الوحدة. انه المنتمي وليس اللامنتمي. انه حامل «رسالة» وهدف. من غرفة «التواليت» في العلبة الليلية كسر كل الصور التي تخيلها الكتاب. أو بالأحرى صحّح وجهة أفكارهم وكليشيهاتهم. مع هذا استمر كثير منهم في استخدام تعبير المسلسلات الأميركية «الذئب المُستوحد» إما «جهلاً» بالمعطيات واما استسهالاً» نازعين عنه «الصفة الأيديولوجية» السلفية التي كانت متمكنة منه.

[ المصادفة

والمصادفة الغريبة ان «متين» كان يعمل في النهار حارساً في احدى المؤسسات وفي الليل يخطط للقتل. وهذه الثنائية موجودة بكثرة في الروايات والأفلام والمسرحيات».

في النهار داخل المجتمع يمارس مهنة أمنية وفي الليل «تستذئبه» انتماءاته الارهابية. الأول واجهة (؟) تمكنه من تنفيذ فعله الثاني! ولا علاقة للاثنين ببعضهما. كالطبيب في بعض الأفلام، الذي يعالج المرضى في النهار، ويقتل بعضهم في الليل.. في الغرف أو القطاعات السفلية المكتظة بالأشياء والجثث والرهائن....واللوحات والصور.

وهو لا يختلف عن هؤلاء الانتحاريين الذين يفجرون انفسهم ضمن تجمعات أو حفلات، أو اماكن مكتظة، أو الذين يفاجئون الناس في الشوارع وحتى في منازلهم ويفتحون ناراً عشوائية عليهم... ثم يفرون، أو الذين توكل اليهم مهام الاغتيالات أو «يتهمون» بها مثل أبو عدس، الشخصية المجهولة «المختلة» المستوحدة الذي اتهم باغتيال الشهيد رفيق الحريري تمويهاً وتضليلاً للتحقيق. فهو «مستوحد» متخيل، تجريدي وهمي، يصنع منه اداة تنفيذية وتلصق به جريمة قد يكون شارك فيها ولم يشارك لتحويل الأنظار عن الجهة المدبرة للعمل، أي للجهة التي قررت عن سابق تصور وتصميم، ولأسباب معينة اغتيال هذه الشخصية أو تلك أو تفجير تلك المجموعات البشرية... انه الارهاب!

من هنا يمكن القول ان هذه الحالة «المستذئبة» يمكن ان تكون جهة منظمة، إرهابية، لا تعدم وسيلة لإدراك أهدافها. هذه الجهة، مثلاً «حزب الله« في وسائله الاعلامية، يبث آيات الحرمان والتراحم والايمان بالله «العادل القدير على كل شيء» وفي سراديبهم يخططون للقتل، أو للانخراط في حروب تأخذ المنحى الدموي العدواني الوحشي: كأن يشاركوا في حرب سوريا ضد الشعب السوري وهم يرفعون شعارات طائفية «نبيلة» كمثل «حماية مقام السيدة زينب» أو محاربة الإرهاب. وهم لا يدافعون في الواقع سوى عن الضلال والدكتاتوريين وأربابهم... في الظاهر كل طقوس التقوى والإيمان، على شاشاتهم، وعلى «سيماء» قياداتهم (يا لهذه الطهارة التي تضيء جباههم، طهارة الجنة المبكرة والإيمان الساطع)، وفي الباطن ألف جهنم ملتهبة في نفوسهم: وهنا بالذات يمكن فهم معنى الانفصام المقصود، أو الانفصام الدعائي. فكل شيء، حتى الله، يُصبح وسيلة دعائية عندهم لتبرير مجازرهم، وارتهاناتهم. أكثر: إنهم، ولكي يتمكنوا من بيئتهم، ويخدروا العقول، يحاصرون الشباب وغير الشباب، بطقوس، وبخطب، ومواعظ وبإملاءات، وبعمليات تفريغ للذات وغسل العقول من دون أن ننسى وسائل الترهيب والترغيب. أي يجعلون الانفصام حالة جماعية (أو كانتونية) منفصلة عن الواقع، وعن الحياة، وعن بلدهم، ويحولوا هذه المجموعات، لكي يسهل انسياقها، أدوات مشحونة بالكراهية، والخوف، والموت، والسواد: أوليس هذا ما فعلته الميليشيات السابقة في السبعينات؟ أوليس هذا ما يفعله خامنئي في إيران وبوتين في روسيا؟ إنهم يجعلون من ناسهم مجرد ذبائح تختار نوعاً من الانتحار (الفكري الإنساني السياسي الوطني) الطوعي، أو «البطولي»! باسم الشهادة، أو العرقية، أو الوطنية والدين.

[ تفريغ الذات

إن ما تعرّض له «متين» من غسل دماغ ليس جديداً لا في التاريخ القديم ولا الجديد باسم الدين أو الإيديولوجيات أو القضايا... وقد جعل هؤلاء من «الدين» الإسلامي (وقبلهم من الدين المسيحي) أفيوناً، يُعمي عقولهم، ويرميهم في حالات من السلبية، والاستسلام، والتلقي المطلق، والانصياع، إما للوصول إلى «الجنة» التي تهيئ لهم أمكنة قرب الله والملائكة والأنبياء، أو إدراك «الجنة الأرضية» ضد الأعداء، والخونة، والكفار، أي السلطة. فكيف نفسّر مثلاً تطوّع الألوف للانضمام إلى «داعش»، سوى هذه الغيبوبات الذهنية، والجهالة، واحتقار الإنسان، قتله للفوز بالجنة.

فهؤلاء ليسوا «ذئاباً مستوحدة».. بل نعاج حُوّلوا ذئاباً ووحوشاً. فقد «اخترعوا» لهم «انتماء» خيالياً غيبياً، لكي يتمكنوا منهم ويوهمونهم بأحقيتهم المطلقة، في الجهاد في «سبيل الله» ضد «أعدائه»؛ من أجل «أرض الميعاد» أي أرض الخلافة، ومن أجل التطهير والوصول إلى حالة من النقاء الأثيري. والخلافة ذات رمزية ومرجعية باحتلالها أرضاً لتصير مقدسة، يُشرّع فيها القتل والسبي، والجرائم، واغتصاب النساء وبيعهن، وإذلالهن، إنها «جمهورية النسيان»، أو إمبراطورية الأرض المحكومة بالعنف «الديني» والطائفي.. والمادي.. خدمة لله، وتنفيذاً للآيات، والأحكام... المقدسة!

[ تصنيع الاستذئاب

فتصنيع الاستذئاب من خلال مكوّنات ووسائل وخلطات لا يختلف عن تصنيع الهيرويين والكوكايين والكبتاغون (وهل هي مصادفة أن تعمد معظم الأصوليات الدينية المتطرفة الإرهابية إلى صناعة المخدرات والإتجار بها خصوصاً عند فئة الشباب: تصنيع كائنات هيولية مفرغة هشة محكومة بشروط الصانع وإملاءاته كنوع من التنويم المغناطيسي)، له المواصفات ذاتها للمخدرات: شلّ القدرة على التمييز، والخضوع للحالات، وتنفيذ «المهمات» (سواء بتكليفات شرعية كما عند حزب الله! أو فتاوى أمر الخليفة، أو المرشد). ولهذا تصبح هذه الحالات الفردية جماعية بقوة العدوى: كالكوليرا والطاعون! فالاستذئاب هو في النهاية ثقافة اللاثقافة، ودين اللادين، وانتماء اللانتماء...

[ التفشي

ونظن أن هذه الظواهر باتت متفشية كالوباء: المجتمع على المجتمع، الأفراد على الأفراد، العائلات على العائلات، المفكرون على المفكرين؛ أي تتحوّل المجتمعات «غيتوات» تَصنع باطراد عدوّها القريب أو البعيد (إحالة إلى رواية أورويل «1984»)، قائمة على «قيم» التمزق، والعنف، والإلغاء، وباثة المخاوف، والهواجس، من بعضها البعض. فلا جوار ولا تسامح، ولا علاقات، ولا سياسة، ولا تقدم: التعلق بالفراغ!

إن الانتشار السريع، الخاطف، القاطع، وهذه الغيبوبات الجماعية، يجد أرضه الخصبة في الأزمات الكبرى الاقتصادية أو السياسية، أو الاثنية، أو الإيديولوجية، أي عندما تبحث كل مجموعة أو هيئة، عن «قصتها» الخاصة تواجه بها الأخرى. ونظن، كما يقول العديد من المفكرين، أن الغرب بدا سهلَ الاختراق لمثل هذه الحالات، لأنه استنفد «قصته»: فالثورة الفرنسية وقيم الجمهورية والحرية والديموقراطية والتنوير استهلكت في فرنسا ليحل الفراغ مكانها: العودة إلى الذاتيات المغلقة: العنصرية، الاثنية، الشعبوية، بدلاً من التفكر، والتقدم، والمساواة؛ ولهذا ظهرت الجبهة الوطنية (آل لوبان) بزخمها، وتراجع اليسار (حامل القصص التاريخية والتغييرية) واليمين، وظهر اليسار المتطرّف (ميلانشون) شاهراً أدواته الشعبوية، وبدا الحزب الاشتراكي نثاراً بديداً بين هذه الظواهر، والنتيجة: تراجع الصراع السياسي والفكري أمام مدّ اللاسياسي؛ والعِرقي. وهذا ما وجدناه في اليونان مع تسيبرا... وفي موازاتها اليوم في إنكلترا خرجت من الاتحاد الأوروبي هو انفصال انعزالي، وضرب للقيم والمصالح المشتركة وإذا نجح «الخارجون»، في الاستفتاء أي الانفصاليون فسيؤدي ذلك إلى العديد من الحركات الانفصالية في أوروبا وسواها وفي طليعتها إيرلندا الكاثوليكية.

إنها الانعزاليات تغزو الشعوب والأفكار والأنظمة: إنزوائية، المطالبة برفع الجدران بين المكسيك والولايات المتحدة، بين إسرائيل وفلسطين، لتذكرنا بجدران برلين أو الصين... أو الجدران النفسية والثقافية التي ترمي ناسها خلف مخاوفهم، ووساوسهم؛ فالذاتيات المغلقة تنتج كائنات لا تاريخية، لا اجتماعية، وتتعامل مع بعضها وكأنها أوبئة تعدي أو مخاطر داهمة.

هنا يمكن الكلام، ومن خلال ما نشهد من أشكال تفكك العالم، حالات «استذئاب» تغذي العنف، والإلغاء: العنف على الذات بما يشبه المازوشية، والعنف على الآخر بما يشبه السادية. فالجدار يفصل بين عنفين أو أكثر، بين مستذئبين من كلتا الجهتين، وتنتفي بينهما، وداخلهما، كل علامات التاريخ، والتواصل (والتاريخ تواصل)، والجغرافيا (وهي تواصل)، والثقافة (وهي تواصل)، أي ينتفي خروج الذات إلى الآخر لصنع التاريخ، والتقدم، والتجاوز والتعدد...

[ الإلغاء

بهذا المعنى تتحول هذه المجموعات إلى «عشائرية« معسكرة فكرياً، ومادياً.. تنفي الآخر (داخل البلد الواحد والشعب الواحد)، وتلغي المعنى الإنساني الأساسي. مجموعات كأنما أصيبت بزهايمر مستعصٍ، وبأفق مكتوم، لينصهر ذلك كله في عدوانية تصبح كأنما جينية، عبثية كوكبية شيزوفرانية، وتعلن بينها الحروب... وتتفكك... هذا هو العالم اليوم، مهدد بالانقسامات، والعداوات العنصرية، والاثنية، والدينية: أي يتحول إلى غابات مسورة لا تسود فيها سوى الذئاب التي يمكن أن نعجز عن تفسير ماهياتها، وتمسح بالغموض والجنون كل مقاربة لها.

على أنقاض هذه الحالات الاستذئابية في الحضارة الراهنة صعد داعش، وظهر المستذئبون، من رواد الخراب، وتشويه القيم، وناشري القتل، والخوف!

... ومحمد مراح ومتين... وغيرهما ينتمون إلى هذا المنتوج العمومي.

إنهم استُذْئِبوا بالإيديولوجيات القاتلة، وبالهويات الضائعة، ولهذا ليسوا لا ذئاباً مستوحدة، ولا طلاباً ضالين، ولا أمراضاً فردية!

إنها حال عالم اليوم بعد سقوط كل قيمه وسقوط كل دفاعاته الحضارية!

الحضارة كما صارت هي الاستذئاب بعينه. 

  • شارك الخبر