hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - جان عزيز

حين تغني طرابلس: من قرف الناس!

الثلاثاء ١٥ أيار ٢٠١٦ - 01:46

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الاخبار

سنة 1998، في خضمّ الحملة الترويجية لوصول إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية، أطلق ملحم بركات أغنية عنوانها «من فرح الناس». بكلمات بسيطة حاول كاتبها نزار فرنسيس أن يفسر، توجيهياً وأدلجة، لماذا اختير فائد الجيش يومها، وكيف تفاعل «الناس» مع اختياره.

إذا قدر لأي مماثلة حول ما حصل في طرابلس يوم الأحد الماضي أن تُكتب الآن، سنكون حتماً أمام صيحة فنية جديدة، عنوانها: «من قرف الناس»!
ففي الفرنسية ثمة مثل شائع معروف، أن السلطة تستهلك. وفي اللبنانية أمثال كثيرة وتعبيرات عدة مطابقة، أقلها شبعنا وبيكفي وحلوا عنا وخلصنا بقى... وغيرها العديد مما عبأ صناديق الاقتراع البلدي في مختلف مراحله، وخصوصاً في طرابلس يوم الأحد الفائت. فحين يصير المزاج العام في مثل هذه الحالة النفسية، لا يعود ضرورياً طرح مشروع بديل. ولا برنامج أفضل. ولا أشخاص أكثر كفاءة أو خطط تنموية ولا تصورات مستقبلية. يصير التوق نحو التخلص من الموجود، أقرب إلى تطلع نحو الخلاص. يصير الصوت العقابي، أو الاقتراع الاعتراضي، هو سيد الموقف. يصير التغيير، أي تغيير كان، شيئاً من غريزة بقائية. وفي حالات كهذه، يعلم التاريخ وتجاربه أن الاحتمالات كلها تصير مفتوحة، من الكارثة إلى الفرصة السانحة.
كل التفسيرات التي أعطيت طيلة الساعات التي أعقبت إعلان نتائج طرابلس، كانت أعجز من أن تشخّص ما حصل فيها. لا زعامة أشرف ريفي المستجدة. ولا الوفاء لرفيق الحريري «الأصلي». ولا الخيبة من خيارات الترشيح الرئاسي ولا الهبة لحسابات النيابة المقبلة. كل ذلك تزييف فوقي. كل ذلك مساحيق سياسية لتفسير انسحاق شعبي. في الأساس هناك بشر مكسورون. مخذولون منذ أعوام وعقود. قرروا أن يتفاعلوا مع وجعهم لمرة. للحظة. أن يقولوا آخ. والآخ صوت. والصوت اقتراع. والاقتراع كان في طرابلس بلدياً جداً، لا غير.
لكن يمكن تشريح «آخ» الناس وفهمها، في الشكل كما في المضمون. شكلاً، بات المعوز الجائع المدقع، حتى الأمي، يدرك أن عنوان «الحزب» المفروض عليه، مجرد كذبة. لا بل كذبة كبيرة. أي حزب كان. كل الأحزاب. هذا البائس المسحوق، أمضى أعواماً طويلة وهو يرقب حركة ما يسمى حزبه، ويرصد تطوره ومساره. صار يعرف أنه مجرد تركيبة عائلية مصالحية. تلبس خطابات سياسية وطروحات وطنجية وأبعاداً حتى إقليمية ودولية. لكن عمقه هو هذه العائلة أو تلك لا غير. الأشخاص أنفسهم والأسماء ذاتها وإخراج القيد العائلي ودفتر الشيكات والبوسطة المقفلة والركاب المعصوبو الأعين طوعاً والسائق الفاشل نفسه... تعب الناس من ذلك كله. ملوا، يئسوا. صار القرف ساكنهم الوحيد ودافعهم الأوحد. فكّروا لمرة: إذا كان الخيار هو عائلة بعيدة عنا باسم حزب مزعوم، فلماذا لا نختار عائلة أقرب، نعرفها ونعرف أن بيتها مدعوم؟ طالما أن كل ما نحلم بها هو مجرد حمايتنا في هذه الأدغال المتوحشة، فالحماية بواسطة الأقرب إلينا والأقدر لنا على اللجوء إليه واللوذ به من مافيات هذه الشيكاغو الثلاثينية المسماة بلاد أرز، أفضل وأجدى.
في المضمون يبدو تقييم الناس أسوأ وأدهى. أي مضمون لخط سياسي يتقلب في الأساسيات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؟! أي موقف يستحق الولاء والوفاء والانتماء، في تموضع رئاسي يقفز من مرشح إلى نقيضه الكامل، وفي اصطفاف سياسي يقول الشيء وعكسه، ويقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر، ويقول أشياء ولا يفكر بشيء؟! أي ثبات في السلوك القيادي يسمح بثبات الانقياد الشعبي، والكل في خلطة غريبة عجيبة، تجعل من لعبة السُلطة علبة سَلطة، ومن الخيار المبدئي خيار خضرة، كما وصف الماغوط ذات مرة؟!
من كل الأدبيات التسويقية المعتمدة منذ أعوام وعقود، خصوصاً في الساحة الطرابلسية، لم يبق لدى بارونات الأحزاب والتيارات المزيفة، إلا العامل الديني. إلا الوتر الإسلامي. وحده الدين صمد فوق غربال كفر الناس بجميع المومنين مصلحة والأتقياء انتفاعاً والصائمين قناعاً وتقنيعاً. وحده الدين ظل يحرّك الناس. لا لأن زعماءهم يتشدّقون به. بل على العكس. لأن الدين كان آخر ملاذات المقهورين رجاءً بعالم آخر. توقاً إلى أرض مغايرة لجحيم الزعماء. انعتاقاً من دنيا القيادات نحو دين العلويات. ظل الدين محركاً وحيداً. فذهب الناس نحو الأصل. نحو الأصيل والأصول والأصولية. هنا سقط مسيحيو طرابلس. لا لأن المسلمين اقترعوا ضدهم. بل لأنهم اقترعوا لخلاصهم من زعمائهم، فتحول شركاؤهم في المدينة خسائر جانبية في معركة لا شأن لهم فيها، ولا شأن لهم في مدينتهم ولا في وطنها.
بعد إعلان نتائج انتخابات طرابلس، غنى كثر مواويل عدة. وسيغني طويلاً كل على ليلاه. هناك من غنى انتصاراً و»طوسنة» متجددة. وهناك من غنى انكساراً وتواضعاً مزيفاً مزمناً. وهناك من غنى استقالة متأخرة. وهناك من سيغني بأنه أدرك وصوله مسبقاً وتنبؤاً، نتيجة فرح الناس. الأغنية الوحيدة الصحيحة أن كل ما حصل كان نتيجة تعب الناس، ووجع الناس، وجرح الناس، وقرف الناس لا غير.
 

  • شارك الخبر