hit counter script

مقالات مختارة - جورج عبيد

النظام النسبي حاجة لبنانية واساسي في اي انتاج السلطة

الثلاثاء ١٥ أيار ٢٠١٦ - 01:42

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الديار

البارحة انتهت المرحلة الانتخابيّة البلديّة في شمال لبنان. كلّ محطاتها بإجماع المراقبين والمحللين واللبنانيين جمعًا أثبتت قدرة لبنان على إظهار نفسه في قلب المساحة الديمقراطيّة المنتجة على صعيد القرى والبلدات، وفي الوقت عينه عرّت الممسِكين بالحياة السياسيّة في لبنان بسعيهم للتمديد لأنفسهم بحجج واهية وواهمة، بدءًا من الحجّة الأمنيّة، وورّطت معها مجلسًا دستوريًّا أثبت بدوره أنّه لا يجيء من قلب الدستور ولا هو حارس عليه وعلى سيرورته، بل هو جزء من حالة سياسيّة ممسكة بلبنان، بنظامه من الجوف، ومستثمرة لاقتصاده ومؤسساته بشهوانية السلطة وغياب آليات المحاسبة الدقيقة والفاعلة المتلاشية امام الشخصانيّة المتورّمة القابضة على كلّ شيء، وكما قال بولس الرسول، «إنّ الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة، والله سيبيد هذا وتلك».
أحد السياسيين وفي مجلس ضمّ مجموعة من الأصدقاء، أضاء على مسرى الانتخابات البلدية ونجاحها على كلّ المستويات، ضمن استقرار معقول، وممّا قاله كحجة دامغة واستمدادًا لكلام السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله، بأنّ الانتخابات البلدية أعقد بكثير من الانتخابات النيابية وغالبًا ما تشهد شحنًا فائقًا ونفورًا بالغًا يقود إلى صدام هائل ضمن القرية الواحدة والبيئة الواحدة وربما العائلة الواحدة أو بين العائلات، بسبب نصرة ذويّ الأرحام وصراع الأجباب المتراكم في داخل القرية الواحدة، إلاّ أنّ هذا لم يحصل ولم نسمع كلامًا واضحًا حوله حصوله، وأعطى عرسال في البقاع الشمالي مثلاً واضحًا، وهي المحاطة بمجموعة ألغام وفيها مشبوهون مطلوبون للعدالة وعلى أرضها سال دم طاهر من خيرة ضباط الجيش وشبابه، لتظهر وبحسب قراءته حالة نموذجيّة في الانقلاب الطاهر على نفسها بل المطهِّر لأرضها من المجرمين، فأثبت العرساليون وبلا «ضربة كفّ»، أنهم مستحقون للبنان الحقّ بانبلاجه من صندوقة الاقتراع، مع انقلاب سلميّ للغاية سيكون مدى طيّبًا وعلى الرغم من كلّ شيء لتواصل بين عرسال ومحيطها، ولتفتح بدورها الطريق بلا تبنٍّ للمجرمين الرابضين في جرودها لتحريرها بواسطة الجيش اللبناني لتستعاد إلى أرض لبنان. عرسال علامة مضيئة في هذه الانتخابات.
وفي معرض حديثه نصح السياسيّ المذكور بتقصير عمر ولاية المجلس النيابيّ، من بعد إقرار قانون للانتخابات فلا حجّة لأحد للتهرّب من إجرائها كما لا حجّة لأحد بمناقشة مشروع من شأنه تامين العدالة لمعظم المكونات اللبنانية وفقًا للنسبيّة الشاملة وأوسع دائرة تمثيليّة تحوي في عمقها المناصفة الفعليّة-الميثاقيّة وليس اللفظيّة بين المسيحيين والمسلمين.
وفي تقييم عام للانتخابات البلديّة بسياقاتها المختلفة، تكشّفت بعض العلامات الهامّة بحسب عدد من المراقبين، توطّد ثقافة النسبيّة كأساس وعماد للانتخابات النيابيّة المقبلة، من هذه العلامات اللافتة، اقتحام نخب جديدة ضمن مسميات عديدة سواء المجتمع المدنيّ أو الأهليّ أو الثقافيّ الانتخابات البلديّة كما في بيروت أو في الجنوب أو في جبل لبنان وبعض من البقاع، وبالاقتحام تمّ ترشّح عدد كبير من النخب فمنهم من ربح ومنهم من خسر. لكنّ المحطّة اللافتة بوضوح أكثر أنّ عددًا كبيرًا من النخبويين والعلمانيين في عدد من قرى الجنوب واجه المحادل والتحالفات المحكمة الاقفال وأثبتوا وجودهم بانتصارهم في محلاّت، ومن رسب منهم فقد نال عددًا محترمًا من الأصوات بوجه تلك المحادل. طبعًا ليس هذا محصورًا في الجنوب بل متشعّب في أماكن كثيرة ومحافظات عديدة، أظهر فيه الناس تمرّدهم على ثقافة المحادل وسياستها وتوقهم إلى مشاريع إنمائيّة جديدة تكتبها تلك النخب لوطن أفضل ومجتمع أمتن.
هذا عينًا يفسّر في واقع الحال كلام السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير في بلدة النبي شيت، وإصراره على النسبية المطلقة مع رفضه الواضح لقانون الستين، فسماحته انطلق من تلك الأرضيّة الجديدة وقد أمست بفعل اندراجها السياسيّ في عناوين عديدة معطى بدأ يترسّخ في لبنان ويملك، بالتالي، قدرة الاختراق، وقد جسّد قدرته تلك في الانتخابات البلدية الأخيرة، بفوز عدد من المرشحين وإن لم يفوزوا فقد حقّقوا مكاسب احتسبت في جوهر هذا المعطى بحيث لم يعد يقرأ بصورة عابرة بل يحسب له حساب كبير.
الصراع الواضح في شكله الحالي والظاهر، بين نسبية حقيقيّة متبناة من قبل العماد ميشال عون وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، وثمّة معلومات تقول بأن القوات اللبنانيّة مع الدكتور سمير جعجع قابلة للنقاش فيها وحولها، وقانون مختلط تبنّاه وحاول إطلاقه رئيس مجلس النواب نبيه برّي ويسانده فيه تيار المستقبل والنائب وليد جنبلاط، ويستهلكون به عامل الوقت تساندهم الضغوط الهائلة التي يمارسها القائم بالعمال الأميركيّ في لبنان ريتشارد جونز، وهو نفسه من ضغط وبقوّة، ويعرف هذا الأمر على وجه التحديد وزير الداخليّة نهاد المشنوق باتجاه إجراء الانتخابات البلديّة.
غير أن القضيّة وكما تظهر بعض الأوساط لا تبدو في الضغط الأميركيّ، بحيث بدا أنّه خال من مضمون، أي خال من مواصفات ومعايير، بتفاعل بعض السياسيين معه. وتشير الأوساط عينها بأنّ خلوّه يكشف بأنّ الأميركيين لا يعيشون هموم اللبنانيين بالتفاصيل، ولا ينطلقون برؤاهم من مسلّمات هي خصوصيّات خاصّة جدًّا تنبع من حاجة المكوّنات المذهبيّة للبقاء إمّا تملّكًا أو مشاركة. بل همّهم إجراء الانتخابات كيفما كان سواءً بقانون الستين أو بالمختلط أو بما يراه المختصّون كأطر ناظمة. لكنّ المسالة بالتوصيف الدقيق مختلفة بالنسبة لعدد كبير من اللبنانيين وبالنسبة لفهم عدد كبير أيضًا من النخب لما يعنيه القانون بالنسبة للبنان الكيان والوطن والوجود. وبوضوح أكثر، وهذا قد يعرفه الأميركيون ولكنهم يتغافلون عنه باستهتار كبير، إنّ قانون الانتخابات المتنازع على مواصفاته وكينونته وجوهره أو محتواه هو جوهر النظام السياسيّ في لبنان، وهو الإطار القانونيّ والدستوريّ-الميثاقيّ للحكم فيه. وفي عودة إلى القرن التاسع عشر وصولاً إلى المراحل الحاليّة لا بدّ أن يستوقف الناس بأن ّحرب 1840 لم تنته إلاّ بنظام القائمقاميتين (أي قانون) في مدى لبنان الصغير حفاظًا على التوازن بين المسيحيين والدروز، وحرب 1860 انتهت بنظام المتصرفيّة (أي قانون) حفاظًا أيضًا وفي الوقت عينه على التوازن وترسيخًا للوئام الداخليّ، ودولة لبنان الكبير بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى تأسّست على أنقاض لبنان الصغير وعكف ميشال شيحا على كتابة الدستور سنة 1926، وكلّها جاءت من صناعات ورعايات دوليّة وإقليمية. وسارت الأحداث نحو ترسيخ صيغة تعايشية بين المسلمين والمسيحيين لم تلبث وبعد تثبيت قصير المدى لها بفعل الاستقلال وترسيخ مفهوم الميثاق الكامل أن تمزّقت وبتنا ننطلق من ضفّة إلى ضفّة ضمن صيغ طوائفيّة حتى وصلنا وبعد حروب قاسية وعبثيّة إلى طائف كتب بدم اللبنانيين وجاء كحالة تسووية أخرويّة على حساب لبنان واللبنانيين وعلى حساب مكوّن تاريخي هو المسيحيّ عينًا.
وفي كلّ تلك المراحل كان قانون الانتخاب المنطلق لكلّ نقاش وصراع. ولم يدرك بعضهم بأنّ قانون الستين وقد أقرّ خلال عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب قال عنه صانعه بأنه أسوا قانون على الإطلاق وجد في كلّ ذلك المسار، فما الدافع لتبنيه؟ كما أن القانون المختلط هجين ومسخ ويؤكّد تاليًا استمرار الاحتراب على أرض لبنان، ومصدر الاحتراب نظريًّا وفعليًّا أنّه ياتي «بناس بسمنة وناس بزيت» كما صرّح الرئيس حسين الحسيني. وبراي خبير سياسيّ، الأميركيون ينظرون إلى ذلك وقد ألفوا في مدى علاقتهم بلبنان قبول لبنان بأي امر تسوويّ هشّ وإن جاء على حساب لبنان، ويعطي دليلاً على ذلك بأنّ القبول سنة 1989 باتفاق الطائف انطلق من هذا السياق عينًا، من تسوية بينهم وبين السوريين والسعوديين أطاحت بالعماد ميشال عون في قصر بعبدا، وكلّ الاتفاقات والقوانين لم يكتب لها الصمود عند المطبات الكبرى بسبب استمرار خلاف اللبنانيين على المفاهيم وغياب الاتفاق على صيغة جديدة تمتّن الجوهر الميثاقيّ المتوازن الحافظ للوجود بمفردات تنتمي إلى هويتنا الذاتيّة، إلى دمنا وعظمنا ولحمنا.
وفي الختام، من الضرورة الحتميّة الدعوة إلى مؤتمر حوار وطنيّ تتمثّل فيه الأحزاب اللبنانية مع النخب الفكريّة، وفيه يتمّ الشروع بقراءة النظام السياسيّ الحاليّ بصورة نقدية عاقلة وعادلة بتقييم دقيق لمعظم العناوين المتفجرة والمتراكمة في جوفه، من داخليّة وخارجيّة، والأسباب الموجبة التي ادّت إلى النأي بمكوّن تاريخيّ للبنان وعزله منذ مرحلة ما بعد الطائف إلى الآن، فتأخذ القراءة بحدّ ذاتها عنوانًا اساسيًّا وضروريًّا على الرغم من كلّ الاعتبارات الضيقة والخاصّة: هل لبنان أرض مفتوحة على وصايات عربيّة وإقليميّة ودوليّة تنتج نظامها على أرضه ليصبح نظامه هو، أو هو وطن بكامل هويته يقيم أطيب العلاقات مع معظم الدول بدءًا من الجوار إلى ما هو اوسع ولكن من ضمن نظامه هو ودستوره هو المنطلقين من توافق اللبنانيين وحرصهم على وطنهم وحياتهم وحياة اولادهم؟ الطامة هي هنا، وهي جوهر كلّ الأزمات المتفجرة على أرضه، ولن يستقيم حلّها إلاّ بتشخيص هذه المسألة بدقّة لامتناهية، وفي لحظات تاريخيّة يجب أن يصنعها اللبنانيون لأنفسهم ولا يصنعها الاخرون لهم.
نتائج الانتخابات وفي كثير منها البلدية أكّدت وبلا التباس حاجة لبنان إلى النسبية المطلقة فهي التي تحميه وتوطّد نظامه وتسمح بأوسع مشاركة باندراج النسبية في داخل كلّ مذهب أو طائفة، وهذا هو فحوى مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ، وقد اكّد على هذه المسألة بالذات السيد نصرالله، فالنسبية تسمح بوجود ثنائيّات أو ثلاثيّات ضمن كلّ طائفة، وتمنع الآحاديات المهيمنة والمبيحة لمفهوم الطائفة القائدة من باب الآحادية الممسكة بكل طائفة.
قانون الانتخابات هو المفصل في تكوين السلطة ولا بدّ منها الآن الآن وليس غدًا قبل أن يبتلعنا مجهول غامض في لجّة العبث القاتل.
 

  • شارك الخبر