hit counter script

مقالات مختارة - ناصر زيدان

محمد المجذوب: نموذج العروبة الراقية

الإثنين ١٥ أيار ٢٠١٦ - 06:34

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الانباء الكويتية

توقف قلب محمد المجذوب؛ وفجأةً توارت صورة فريدة ناصعة من بين فُسيفساء لوحات المشهد العربي. صورةٌ كانت تبعث على الاعتزاز، وتُغني الذاكرة بباقةٍ من الورود المُجمَّعة من بساتين صيدا وحدائق بيروت، ومن بنفسجات ضفاف النيل ومِسك اليمن، وفي الباقة ايضاً رائحة من تمر العراق وعنب الجزائر وزنبق مراكش.

عرفته منذ اكثر من ثلاثين عاماً. كُنا على مقاعد الدراسة الجامعية، وكان المُعلم؛ يشرح لنا عن الدساتير المتنوِعة، وعن القوانيين الدولية، وعن الاحزاب السياسية. اذكُر انه قال لنا يوماً: "ان الاحزاب اللبنانية تتميَّز بفرادةٍ لا ينطبق عليها اي من التصنيفات المُعتمدة لأنواع الاحزاب".
محمد المجذوب نموذجٌ عن العروبة الصافية، الاصيلة، الصادقة. العروبة التي تستندُ الى العلم والمنطق، بعيداً عن الشعبوية الركيكة، وعن الاستبداد والقهر. وتظهير الصورة العربية الراقية؛ كان الهاجس الاهم عند محمد المجذوب. فهو ضليعٌ الى ابعد الحدود في اصول العائلات العربية، وكيف تتشعَّبُ افخاذها بين الاقطار العربية، وكيف تتوزع على المجموعات الروحية الاسلامية وغير الاسلامية. ضارباً مثالاً على عائلته التي قدِمت من المغرب، ويوجد فروع لها في مُعظم الدول العربية.
ومَن لم يُجالس محمد المجذوب؛ لا يُدرك مدى إلمامه بتفاصيل قواعد اللغة العربية، وحرصه الدائم على التمسُّك بإستخدامها على الشاكلةِ الصحيحة؛ في الحديثِ، وفي الكتابةِ، وفي تصويبِ المعاني التي تَدلُّ عليها الكلمات، ومن بينها اهمية وضع النقاط والفواصل ، ودلالات تحريك الاحرُف بالضَّمةِ والفتحةِ والكسرَّةِ والسكون.
رغم تبوئِهِ لمراكز ادارية وعلمية وقانونية عالية - لاسيما كعميد لكلية الحقوق، ومن ثُمَ كرئيس للجامعة اللبنانية، وكنائب لرئيس المجلس الدستوري – بقيَ للهم العروبي المكانة الاولى في صيرورة حياته الشخصية والمهنية. والحديث عن الهموم العربية كان الحاضر الدائم على مائدة إنشغالته.
غالباً ما كان يتقصَّد بالحديث معنا في الجلسات المُتعدِدة؛ ذكر لقاءاته مع كمال جنبلاط. وهو مُندهشٌ – كما ذكر لي منذ 8 اشهر – من الصفاء العروبي لديه. واستذكر كيف دعاه جنبلاط الى لقاء ضمَّ نُخبه من المفكرين والاساتذة الجامعيين بُعيدَ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. وكان الهدف من اللقاء؛ وضع رؤية مُشتركة عن كيفية مواجهة الاخطار التي تُحدِق بالامة العربية، واهم عناصر هذه الرؤية؛ إنشاء اتحاد عربي بين الدول العربية، يرتكِز على التعاون التجاري والصناعي والزراعي والدفاعي، ولا يُلغي الخُصوصيات الجهوية، او القطرية للدول الاعضاء. كنتُ اشعر انه يرتاح لترداد عبارات قالها لهم جنبلاط: " ياعمي لا يجوز ان نترك مشعل العروبة في ايدي بعض العسكريين الذين يشوهون الفكرة، ولا يعرفون عن الانبعاث العربي الحضاري والعلمي اي شيء".
غياب محمد المجذوب عن المشهد يترك اثراً في اغلبية المُنتديات الثقافية والفكرية في لبنان، ويُشكِّل خسارة لحلقة التواصل العربي، وسيترك فراغاً في مسيرة النهوض العربي.
يبدو لبنان اليوم، واكثر من ايِ وقتٍ مضى – ومثله العديد من الدول العربية – بحاجةٍ ماسة الى ترسيخ الفكرة العربية الجامعة، بعد التشوهات السياسية والاجتماعية التي اصابت المكونات الشعبية، وعزَّزت من عناصر التفرقة المناطقية والطائفية والمذهبية. والفكرة اللبنانية في سياقها التاريخي تتغذَّى من ضفاف النهر العربي الكبير، ولا يمكن لهذه الفكرة ان تعيش في إناء الانعزال. كما ان مقتل هذه الفكرة يكمُن في الانحياز الى مُقارباتٍ اقليمية او دولية بعيدة عن السياق العربي العام.
حَمَلَ محمد المجذوب على بعض المثقفين والعلماء العرب الذين دافعوا عن فتوى تحريم الثورة. تلك الفتوى التي استخدمها العثمانيون لتكريس سيطرتهم على المنطقة العربية لمدة اربعة قرون. كما ان هذه الفتوى لم تخدم الغرض الذي ادعى بعضهم؛ انها كانت بهدف منع الفتنة بين المُسلمين، بل على العكس؛ فإنها شكَّلت تنازلاً عربياً عن السلطة، وخدمت المشاريع الخارجية التي اساءت للعروبة.
وفي ترؤسِه للمنتدى القومي العربي؛ كان المجذوب حريصاً على اخراج الحراك من تحت عباءة الانظمة، لأن تلك الانظمة – لاسيما المُستبدَّة منها – استفادت الى حدود واسعة من المُزايدة حول الفكرة العربية، بينما كان هدفها الاساسي إطالة زمن استمرارها في السلطة.
وفي تلك الفترة التي ترأس فيها المجذوب المنتدى، غابت عن اروقتهِ الاحتشادات ذات الخلفية الامنية، والتي كانت تطغى على بعض اصطفافات الحراك الثقافي العربي في مرحلة من الزمن.
غياب المجذوب بالتزامن مع ذكرى نكبة فلسطين؛ يُحفِّزُ على الاستنهاض لمواجهة التراجع العربي الملحوظ، وقد يكون الغياب القاسي؛ مناسبة للإضاءة على عناصر القوة التي تنبعثُ من الفكرة القومية الجامعة، كي لا يؤدي الضياع والتشتُّت الى نكباتٍ أُخرة تزيدُ من الآلام اللبنانية والعربية.
 

  • شارك الخبر