hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - نجوى بركات

سورية، مملكة الخراب

الثلاثاء ١٥ أيار ٢٠١٦ - 07:18

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

العربي الجديد

حين تجول بك طائرة الإعلام الروسيّ فوق مدينة حمص المدمّرة، دقائق تبدو دهوراً، لا تعود تعرف إذا ما كان هنالك صوتٌ يرافق الصورة، أم أن الصوت الذي تسمعه هو صوت عويل أحشائك واحتراق قلبك. سهولٌ تمتد، ولا تنتهي، من أبنيةٍ مبقورة، متهالكة، تميل أحياناً لتتكئ على جدران أخواتها، فيما الركام يتراكم ويعلو، حتى ليكاد يعمي عينيك الناظرتين إلى المشهد عبر المرآة.
ثم تفكّر، أنت من سبق لك أن خبرتَ الحرب، أنه دمارٌ يأتي من الأعلى، من السماء، وتكاد لا تجرؤ على مقارنته بما عرفتَ، حين كانت الشوارع تُصاب على مستوى مقاتليها ومعهم، فيبلغها الرصاص والقنابل والقذائف، أو تُرديها صريعةً بنادقُ القناصة الذين كانوا يتخذون لهم ركناً على أسطح البنايات.
هذا الدمار السوريّ الذي في حمص أمس، وفي حلب أمس واليوم، وفي أمكنةٍ أخرى غداً، يشبه أزمنة قتل وإبادة أخرى، لكأنه يقترب مما عرفناه من تدميرٍ لمدن بأكملها خلال الحرب العالمية الثانية، حين كنا نرى برلين، مثلاً، وقد سُويّت بالأرض، اقتصاصاً من هتلر ونازييه. ألا تصحّ المقارنة؟ بلى تصحّ، قتلاً وتدميراً وإهلاكا، بين مَن أخذ بلاده إلى الهلاك، وذاك الذي يهلكها بيديه الاثنتين.
لم يكن الفوهرر ليدكّ مدن ألمانيا وبلداتها بنيران القذائف والطائرات، بينما الآخر يفعل، إذ يرمي براميل متفجرة ويطلق مدفعية الطائرات على سكان عزّل، على مبانٍ وأسواقٍ قديمةٍ وشجر وحيوان، يقصف ويدكّ، ولا يهمّه أن يصيب مشافيّ ينزل فيها أطفال وعجائز ومرضى، ممن ينبغي تحييدهم عن كل صراع.

يخرجون من الدمار أشباحاً بيضاً، وقد غسلهم الغبار ودمغهم بدمغته. يخرجون من باطن الأرض، من أتون البركان، هلعين لا يلوبون على شيء، أيديهم ممدودةٌ إلى الأمام، كعميان يتلمّسون الطريق إلى الضوء. يخرجون إلى العدم، إلى العراء التام، محاطين بركام الحجر وركام الأسماء، لا يرفعهم إلا الخراب.
مات آخر طبيب أطفال في حلب. قضى في قصف مستشفى القدس بالطائرات. هكذا نعاه ستة زملاء له، وقالوا إن على أسياد العالم التدخّل لوقف المقتلة الكبيرة التي اسمها حلب. مات طبيب الأطفال غير قادرٍ على ترك المدينة الميتة حتماً. فكّر كيف له أن يترك أطفالاً يتلقون القصف والبراميل والجدران المتهاوية، بأجسادهم الهزيلة العارية. كان مدركاً أن الربّ نفسه لم يعد قادراً على إنقاذهم، وأنه، وإن بقي معهم، فلمداواةٍ لن تحمي أعمارهم اليانعة، ولن تطيلها. بقي للمواساة لا غير، كي يلهيهم عن مصائرهم البائسة الشقية، كي لا يموتون وحيدين، عراةً ومن دون أهل. أراد أن يكون أهلهم في الموت.
أطفال درعا، أطفال الغوطة الشرقية، أطفال حلب، أطفال سورية كلها لن يهدأ لهم بال. اسمع أيها الأصمّ، ضحكاتهم المبتورة التي يحفظها لهم الهواء في أعشاشٍ نسجَها شجرٌ شاهدٌ على مقتلتهم. اُنظر، أيها الأعمى، أطرافهم الباردة، وقد غطّاها الدمُ المجبول بالتراب. اُنظر وجوههم النائمة على ضنك وبقايا ذعر ما زال عالقاً بين أهدابهم. قم أيها القاتل، واحصِ قتلاك فرداً فرداً، حجراً حجراً، وعُم في بحيرة صنعتها مياهُ أجسادهم ومآقيهم، وارتوِ ما طاب لك. وافرحْ، افرحْ وهلّل، يا صديق اللعنات، فكل هذي الدماء، وكل هذي الأشلاء، لك، ولك أيضاً مجد كل هذا الخراب.
وحين يصفو الليل فوق رأسك الصغير، احصِ، مرة وتكراراً، غنائمك من الجماجم المهشمة، والأرحام الممزقة. وحين تصمت السماء خجلاً مما رأته منك، تمدّد على ظهرك، واحلم بغدٍ تتدفق فيه شلالات العتمة، وقل هذا الجحيم الشاسع الذي لا تني تحرقه الشمسُ هو مملكتي الباطلة التي، بيديّ هاتين، قد صنعت. ثم أغمض عينيك، ومُتْ.
 

  • شارك الخبر