hit counter script

تركيا وشبكات التهريب واللبنانيون ومقابر المجهولين

الجمعة ١٥ شباط ٢٠١٦ - 11:33

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

«السفير» في جزيرة لسبوس.. أرض ما بعد الموت! (السفير، 26/2/2016، ص13) 

المسافة بين الساحل التركي وجزيرة لسبوس اليونانيّة لم تعد تُقاس فقط بالأميال أو بساعات عبورها، إنّها المسافة الفاصلة بين الحياة والموت. بشكل أكثر دقّة، بين الاحتمال الأخير للموت العنيف، أو الفرصة الأخيرة والجدية لاستمرار حياة عشرات الآلاف من السوريين وأبناء جنسيات عالمثالثية أخرى.
ليس الأمر جديداً، المشهد يتكرّر منذ أكثر من ثلاث سنوات، بشكل شبه يومي أحياناً. إيقاع الحياة في الجزيرة اليونانيّة السياحيّة الهادئة والجميلة، انقلب بشكل دراماتيكي. ويصعب على أهل لسبوس أن يفهموا ما يعيشونه، بعضهم ينحاز لهؤلاء الذين يعبرون البحر إليهم، فيما آخرون يرفضون الواقع الجديد المفروض عليهم.
لكن المستجدّ في الفترة الأخيرة، تمثّل بالقدرة العالية على تنظيم عمليات الاستقبال الرسمي اليوناني للاجئين، خصوصاً مع اشتداد برودة الطقس والشتاء، وتراجع عدد الوافدين عبر البحر، صارت سفن الشرطة أو خفر السواحل اليونانيّة قادرة غالباً على ملاقاة قوارب اللاجئين المطاطية في الماء لنقلهم إلى المرافئ ومن ثم إلى مخيم اللجوء الانتقالي بعد التدقيق في جنسياتهم، وهو مخيّم «موريا».
هذا التنظيم الجيد، المرتبط أيضاً بتشديد الإجراءات، حيث قلّة من الناشطين والجمعيات بات يُسمح لهم بالدخول إلى مخيم موريا، جاء ـ كما ذكرنا ـ مترافقاً مع تراجع أعداد الوافدين بسبب أحوال الطقس، ولكنّه تزامن أيضاً مع تحوّل في خطاب الحكومات الأوروبيّة المساند لقضية اللاجئين والمرحَّب بهم، إضافةً إلى حضور تحقّقه «بغيدا» الحركة اليمينية الأوروبية التي ترفع شعارات معادية للإسلام. وهو أيضاً تنظيم وإحكام في السيطرة على الصور التي تُبث عن اللاجئين ومأساتهم، يتزامن مع الرغبة الأوروبيّة في الحدّ من الوافدين إليها. لذلك، لم يعد ثمة حاجة حقيقيّة لبثّ هذه الصور، بل من الأفضل إخفاؤها.
تتولّى سفن خفر السواحل اليونانيّة إنقاذ اللاجئين عندما يقتربون من شواطئها، لكن ذلك لا يمحو آثار ما تعيشه الجزيرة منذ مدة. فعلى مساحات متناثرة من الشواطئ، يمكن للمرء كيفما وجّه نظره أن يقع على أشياء للاجئين: جوارب، جزء من حجاب امرأة، زجاجات حليب أطفال، وغير ذلك من أغراض بدأ بعضها يختلط بوحل الشاطئ وينغرس فيه. وإذا تقدّم المرء من الشاطئ نحو مرتفعات في الجزيرة، قد يقع على تلال من سترات النجاة، تلك التي يرميها لابسوها فور وصولهم إلى الشاطئ. وفي هذا المضمار، مع تفقّد تلك السترات يمكن التحقق ممّا يتحدث عنه منذ فترة الهاربون في البحر، إذ أن عدداً كبيراً من السترات التي يسلمهم إياها المهرّبون (ويقولون لهم إنّها مصنّعة في تركيا) إنّما هي محشوة بالإسفنج المكثّف الذي لا يساعد على أن يطفو المرء فوق الماء في حال انقلاب القارب، بل هي عامل مساعد على الغرق.
شواهد كثيرة حاضرة في الجزيرة اليونانيّة تذكّر بمن عبروا ـ وإن تراجعت أعداد الواصلين إليها بشكل كبير منذ شهور ـ أكثرها حضوراً ربّما تلك المقبرة المقامة في بستان، عند طريق فرعيّة تبعد ما لا يزيد عن كيلومترين عن مخيّم استقبال اللاجئين. هناك عشرات القبور للاجئين من جنسيّات مختلفة، قتلهم البحر، ووصلت جثثهم إلى الشاطئ، بعض الشواهد تُظهر أسماء الساكنين في القبور وبعضها بلا أسماء، ولكنّها كلها تحمل فقط تاريخ الوفاة، لا تاريخ الولادة.
مع انخفاض درجات الحرارة وتساقط الأمطار، تناقصت إذاً أعداد الهاربين، ولكن لم يتبدّل شيء في «سيناريو» الهروب. يتجمّع العشرات عند الشاطئ التركي بناءً على موعد يضربه لهم المهربون، يصلون للتحضر للرحلة، فيُفاجئهم المهرّبون بإجبارهم على الصعود في القوارب قبل الموعد، يجبرونهم غالباً بقوة السلاح، يصوّبون المسدسات على رؤوسهم، حيث يتم إصعاد أكثر من 60 شخصاً في قارب مطاطي يتسع فقط لـ 35 راكباً. ويُجبَر أحد اللاجئين على قيادة القارب، يتمّ إعطاؤه تعليمات بسيطة في دقائق عن أسلوب قيادة القارب، تُحدَّد له الوجهة التي يجب أن يتخذها، ويُطلق القارب في الماء.
خالد أ.، شاب عشريني روى لنا بعد وصوله إلى مخيم موريا، كيف قاد القارب المزدحم بالركاب، وبينهم أطفال. كان موعد الانطلاق المتّفق عليه مع المهرّبين هو الثانية فجراً، لكنّهم أجبروه على مغادرة الشاطئ التركي عند العاشرة ليلاً، كان خالد في عتمة الليل يقود قارباً لأول مرّة في حياته، تحدفه المياه شمالاً ويميناً، وهو يتواصل عبر هاتفه الشخصي مع شبان سوريين في تركيا، يتابعون مسار قاربه من خلال التواصل معه عبر الهاتف الذكي، وكلّما انحرف عن الطريق الصحيح، يتّصلون به ليدلّوه كيف يصوّب رحلته.
وهو يروي ما عاشه لساعات، لا يفوت خالد أن «يشكر شبكة الاتصالات والإنترنت التركيّة الممتازة العابرة للمياه الإقليمية»، لكن الرحلة مهما كانت «سهلة»، فهي بالتأكيد خطيرة. لساعات استمر صراخ الأطفال والنساء لأنّ أمواج البحر كانت عالية، ولأن القارب محتشِد بما يضاعف قدرته على الاحتمال. بعد نحو ساعة ونصف من الإبحار، صعد موج البحر، وتدفقت المياه إلى داخل القارب، اشتدّ الهلع، واضطر ركّاب القارب إلى رمي كل حاجياتهم.
عندما بدأ نور الفجر يشقّ عتمة البحر، كان القارب ما زال في قلب المياه، والشاطئ اليوناني لا يراه الهاربون. عند هذه اللحظة، انتهت ساعات الخوف الطويل، حيث اكتشف خفر السواحل اليونانيّة القارب وعاجلت إحدى سفنهم الوقت لإنقاذ اللاجئين ونقلهم إلى مركز رسمي عند الشاطئ، ثم إلى مخيم موريا للاجئين، حيث يتمّ إتمام المعاملات وإقامة اللاجئين لبضعة أيام قبل أن يُكملوا رحلتهم عبر البحر أو براً إلى أوروبا. هنا نلفت إلى أنَّ عدداً كبيراً من الأطفال يقيم في مخيم للاجئين في اليونان، وهم أطفال عبروا البحر بلا أهاليهم، أو وصلوا أحياءً إلى الشاطئ ومات ذووهم.
رواية خالد يحكيها كل اللاجئين السوريين أو العراقيين أو الأفغان الذين يعبرون إلى موريا. النهاية تتغير إذا كان اللاجئون من دول أخرى، أي من لبنان أو باكستان أو دول المغرب العربي، أو أيّ دول عالمثالثية أخرى، هؤلاء لا تُفتح لهم أبواب أوروبا، ولا أبواب مخيّم موريا الرسمي، فيقيمون غالباً في مخيم Better Moria الملاصق للمخيّم الرسمي. وقد أقامه ناشطون من جنسيات مختلفة، يزوره السوريّون والعراقيون ويبقى فيه أبناء الجنسيات الأخرى لفترة انتظار غير محدّدة، انتظار لحلّ ما، إمّا العودة إلى الوطن الأم أو الهرب مجدداً إلى مكان آخر، انطلاقاً من أثينا.
اللبنانيون وحدهم لا تنطبق عليهم قواعد الانتظار، فهم حين تُكتشف هوياتهم يُرسلون فوراً إلى أثينا لإعادتهم إلى لبنان. لكن عدداً منهم يكون قد اتّفق مسبقاً مع المهرب الذي نقله من تركيا على متابعة خط سيره، هناك سيتدبر المهرّب التركي عبر شبكته، ومقابل مبالغ مالية كبيرة جداً، أمر تهريب اللبنانيين من أثينا إلى دولة أوروبيّة أخرى وذلك من خلال تزويدهم بتأشيرات سياحيّة مزورة.
حين يُطرح السؤال على عشرات «الهاربين» إلى أوروبا عن سر اختيارهم تركيا للانطلاق منها، يجمعون كلّهم على أنّها تحولت إلى خط التهريب «العالمي» الأول والأكثر اشتغالاً. يقصدها شبان وشابات من أفريقيا أو آسيا لتكون نقطة عبورهم إلى أوروبا، ويفيدون بأن شبكة المهربين التي تتخذ من تركيا مركزاً رئيسياً لنشاطها، إنّما هي الأقوى حالياً حيث سُدت المنافذ الأخرى إلى أوروبا.
شبكات المهربين هذه، تتمتّع بقدرة فائقة على التأقلم السريع مع كل التغييرات والتطورات، فما كاد القرار الرسمي التركي بفرض تأشيرات دخول على السوريين يصدر حتى استغلته على الفور مافيا التهريب، ومدت نشاطها ليبدأ بتهريب السوريين سيراً على الأقدام من سوريا إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا، ورفعت بالتالي «تسعيرة خدماتها» عليهم.
شبكة يُطرح على نشاطها غير الشرعي ألف سؤال وسؤال، خصوصاً أنَّ ثمة لاجئين (غير سوريين)، يقيمون في مخيم Better Moria يتحدّثون عن مهرّبين يطلقون أقواساً على القوارب لإغراقها. وإن صحّت هذه الأقوال أم لا، فإنَّ ثمّة قلقاً كبيراً يبدأ الحديث عنه في اليونان ويمتدّ حتى دوائر المهتمّين باللاجئين في دول أوروبية أخرى، وهو قلق متعلّق بأمرين: أولاً التجارة الناشطة بالأعضاء البشرية، والثانية تدور حول اختفاء آلاف الأطفال السوريين المهاجرين إلى أوروبا، وعمليّات الاختفاء تتمّ في مناطق جغرافيّة متعددة، بعضهم يختفي قبل الوصول إلى شواطئ اليونان، ونحو 10 آلاف اختفوا بعدما تم تسجيل وصولهم إلى اليونان أو بعد مغادرتهم لها.
 

  • شارك الخبر